أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 يوليو 2018

الرئيسية رواية انتيخريستوس (2)

رواية انتيخريستوس (2)


رواية انتيخريستوس (2)

تحليل القصة 1


لا تظن أن هذه الحكاية هي حكاية أسطورية.. بل هي حقيقية.. ورغم أنها تعتبر ملحمة تاريخية إلا أنه لم يُمثل فيها فيلم ولم تُكتب فيها رواية.. وذلك ببساطة لأنه قصد إخفاءها.. فالنمرود مذكور في كتب التاريخ المعترَف بها كلها.. العربية منها والعالمية وقصته معروفة.. وتذكر كتب التاريخ نفسها قصة أخرى عن رجلٍ آخر حكم نفس البلاد في نفس فترة النمرود.. رجل اسمه "زاهاك".. وتسميه كتب العرب الضحاك.. وبعض تلك الكتب التاريخية المعترف بها تقول إن الشخصيتين في الحقيقة هما شخص واحد.. وتذكر كتب التاريخ نفسها أيضًا قصة رجل ثالث عاش في نفس الفترة وحكم نفس البلاد.. وتقول عنه إنه هو أول ساحر في التاريخ وتسميه "زوروستر".. ومرة أخرى تربط بعض كتب التاريخ المعترف بها بين "زوروستر" والنمرود فتقول إنهما في الحقيقة نفس الشخص.. وحتى تعرف القصة كاملة يجب عليك أن تقرأ سيرة الشخصيات الثلاث هذه: النمرود والضحاك وزوروستر.. وتكتشف أنهما فعلًا شخص واحد.. ثم تربط بين هذه السير المتشابهة وبين القصة التي ذُكرت في التوراة وفي القرآن.. وستظهر لك القصة الكاملة.. أما أنا فقد اختصرت عليك هذا البحث الطويل المضني. 

سترى النمرود في الكتب بأسماء أخرى مثل "مين" و"مينوس" و"نينوس" و"نينيب" و"ماردوش" و"ماردوك" و"الازدهاق" و"بيوراسب".. وسبب كل تلك التسميات هو أنه شخصية أسطورية عند الفرس والكرد والأفغان والهند والتركمان والعرب.. وتحرَّف اسمه كثيرًا من التحريفات عبر مروره على مختلف اللغات والحضارات.. حتى إنه قد تم تأليف ملحمة إيرانية كبيرة عنه تدعى "الشاهنامة". 

إن تمثال "كاوي" الحداد لازال موجودًا حتى الآن في أصبهان.. والمغارة التي عُلق فيها "زاهاك" في جبل دنباوند لازالت موجودة ومعروف مكانها.. ولازال الإيرانيون حتى اليوم يحتفلون بالعيد الذي قُتِلَ فيه هذا الملك الجبار ويسمونه عيد نوروز.. ورغم أن برج بابل كان مرتفعًا فوق السحب بالفعل إلا أنه قد دُمِّر تدميرًا كاملًا فلم يبقَ له أثر.. ولذلك لن تجده مذكورًا ضمن عجائب الدنيا السبع رغم أنه العجيبة الأولى. 
_43_

أما الفاتنة "سميراميس" فهي الفتاة التي تحمل الشعلة في تمثال الحرية.. وهي نفسها الفتاة التي تراها تحمل الشعلة في الشعار الشهير لشركة Columbia Pictures للأفلام.. وقد حكمت بعد وفاة النمرود خمس سنوات.. أقامت فيها ضريحًا عظيمًا شديد الفخامة لزوجها زيَّنْته بالتماثيل الذهبية.. وبنت حدائق بابل المعلَّقة التي صارت العجيبة الثانية من عجائب الدنيا السبع. 

هكذا تعلم الإنسان السحر لأول مرة.. وقد علَّم النمرود السحر لنفر كثير جدًّا من خاصته وكان اسمهم "الماجي".. أي السحرة.. ومنها كلمة "ماجيك" التي تستخدم الآن في اللغة الإنجليزية وتعني السحر. 

أعتقد أن اللعبة قد بدأت تروق لك.. لازلنا في البداية على أية حال.. المجموعة التالية فيها ستة أوراق أيضًا.. دعني أكشفهم لك بسرعة قبل أن يضيع حماسك.. 

الورقة الأولى: هي ورقة الأرواح المحترقة وعليها صورة رؤوس شياطين وسط نار مستعرة. 

الورقة الثانية: هي ورقة النار وهي شبيهة بالأولى.. عليها صورة جماجم تحترق وسط النار. 

الورقة الثالثة: هي ورقة الساحرة وعليها صورة ساحرة شابة جميلة. 

الورقة الرابعة: هي ورقة الملائكة وعليها صورة ريشة بيضاء كرمز للملائكة. 
_44_

الورقة الخامسة: هي ورقة تزييف المعجزات.. وعليها صورة بالأبيض والأسود لا أتبين ما هي.. 

الورقة الأخيرة: هي ورقة التعويذة المضادة.. وعليها صورة ساحرٍ ذي شكل غريب. 

وهاقد وضعناهم بترتيبهم الصحيح.. وحان وقت كشف السر الثاني.. والحكاية الثانية. 


***


_45_


اهبطي يا "إنانا" . .
1900 قبل الميلاد


نظر بافتتان إلى جسدها شِبه العاري والمستلقي في استسلام عجيب على ذلك السرير الوثير ذي الأغطية الحمراء.. والذي تنبعث من حوله إضاءة حمراء خافتة لشموع صغيرة أضفت جوًّا محبَّبًا من اللذة.. اقترب من جسدها حتى دخلَ في مجال عطرها.. تنفَّسه في نشوة.. ثم غشيته الشهوة فتحركت يده بسرعة إلى شعرها فقبضت عليه في عنف رومانسي يجيده كما يجيد التقبيل . 

اقترب وجهه من وجهها.. لفحتها أنفاسه الحارة.. نظر إلى شفتيها عن قُربٍ.. ليست هاتان شفتين.. إنما هذا توت أو ياقوت.. قبّلهما بعنف رجولي يعجب النساء.. نظر إلى عينيها.. هذه المرأة كل ما فيها جميل.. ظلَّ يقبِّل شفتيها ووجنتيها وعينيها حتى ثمل . 

إن الكاميرا التي تصوِّر لك هذا المشهد تصوِّره لك عن قُربٍ متعمَّدٍ؛ فتارة ترى شفتيْ الفتاة وهو يقبِّلهما ببطء وتارة تركز الكاميرًا على عينيها الجميلتين الساهمتين في أمرٍ ما لا تدري ما هو.. ثم تقرر الكاميرا أن تلتف حول وجهها لتصورها لك من الخلف.. إن لها شعرًا أسود طويلًا يمسكه الرجل بقبضة يده القوية بينما شفتاه آخذتان في تقبيلها بحرارة . 

بدأت الكاميرا تنزل شيئًا فشيئًا منذرة بمشهدٍ خلفيٍّ لجسد عارٍ فاتن يناسب جمال هذا الوجه.. وظلت الكاميرا تنزل ببطءٍ حتى تسارعت دقات قلبك المحروم وبرزت عيناك من اللهفة لما ستراه بعد قليل.. ثم اتسعت عيناك.. ولم يكن اتساعها عن شهوة ولا نشوة.. بل لقد اتسعت عيناك من الذعر.. فلما انتهت الكاميرا إلى نهاية شعر الفتاة لم ترَ ظهرها عاريًا كما هو مفترض.. بل لم ترَ شيئًا على الإطلاق.. لم ترَ إلا رداء الرجل.. ثم ابتعدت الكاميرا بسخرية شيئًا فشيئًا لتريك المشهد الكامل.. مشهد لرجل يقف ممسكًا برأس فتاة ويقبِّلها بنهمٍ بينما يستلقي جسدها بعيدًا.. على فراش وثير.. وأغطية حمراء.. وعزفت لك الكاميرا موسيقى رومانسية جميلة إمعانًا في السخرية. 
_49_

لما شبع الرجل أبعد وجهه عنها قليلًا ونظر إلى الرأس المقطوع بتشفٍّ.. ثم رمى الرأس الجميل حتى اصطدم بالحائط بعنفٍ واستقر على الأرض.. وهو في رحلته هذه - الرأس- صنع بقعة من الدماء على الجدار متصلة إلى موضع الرأس الساكن على الأرض.. نظر الرجل إلى البقعة بلا مبالاة ثم اتجه بعيدًا عن السرير.. يمكنك أن ترى الأرضية الآن.. أرضية رخامية جميلة .. لكن أفسد جمالها بضع دوائر مرسومة عليها داخل بعضها البعض في شكلٍ مريبٍ. 

مرحبًا بك في بابل مرة أخرى.. الأرض الملعونة.. نحن في عهد ما بعد النمرود.. لا تدع المشهد السابق يصدمك.. ولاتحزن على الفاتنة أبدًا فهي "إنانا".. وهي ملعونة في الأرض وملعونة في السماء.. ولا تستغرب من هذا الرجل ذي الرداء فهو "هازارد".. و"هازارد" هو أشد سحرة بابل فتكًا في ذلك الزمان.. وقبل أن نكمل المشهد لابد أن تعرف معلومة واحدة.. وهي أن هذا الساحر يلقَّب ب "مانزازو".. و"مانزازو" في البابلية تعني نكرومانسر.. ونكرومانسر تعني.. فلنتابع المشهد لنفهم أكثر.. 

وقف الرجل في وسط الدوائر.. كان يرتدي إزارا طويلًا أحمر عليه خطوط سوداء عريضة.. تنحدر على ظهره قلنسوة رداء الراهب المعروفة.. أخذ يتلو الكثير من التراتيل التي يرتفع فيها صوته حينًا وينخفض حينًا آخر.. وترتفع يداه فيها حينًا وتنخفض حينًا آخر.. ثم إنه خرج من الدوائر وتوجَّه إلى رأس "إنانا" الملعونة وأمسك بشعرها الجميل ثم انحنى بالرأس على الرخام وأخذ يفعل شيئًا عجيبًا. 

وضع الرأس على الأرض وأخذ يحرِّكه في اتجاهات مختلفة ويضغط على مواضع معينة منه.. هذا رجل يعرف ماذا يفعل.. لم يكن بإمكانك أن تفهم ماذا يفعل إلا بعد أن انتهى مما يفعل ورمى الرأس بعيدًا مرة أخرى.. لقد كان هذا الرجل يكتب.. وقلمه كان رأس "إنانا".. ومُداده دمها.. بالطبع لن تفهم حرفًا مما كتب لأنه كتبه بلغة بابلية قديمة.. إن حروف هذه اللغة تبدو مخيفة. 
_50_

ثم أخذ يتلو بصوتٍ متهدج يجيده السحرة : 

- إيتيمو.. إيتيمو.. من فلكك الملعون الدائري اهبطي يا "إنانا".. يا من انحنت لشفتيك هامات الرجال ونواصيهم.. إيتيمو.. إيتيمو.. يامن تنزهت قلوب عن كبريائها بنظرة من عينيك. 

وأخذ يتلو ويتلو حتى أُوقدَت نار من مكان ما حول دوائره.. وصار يهيأ له أنه يرى رؤوس الشياطين.. رؤوس بشعة تلفحها النار التي أوقدتها التلاوات.. ومن بين رؤوس الشياطين برزت له رأس ثم اختفت ثم برزت.. رأس "إينانا".. أو هكذا خُيَّل له.. لابد أن قلب هذا الرجل شديد الثبات.. إن رؤوس الشياطين والحق يقال مخيفة.. مخيفة إلى درجة أن رأس "إينانا" الجميلة التي ظهرت وسطها فقدت جاذبيتها.. ثم انطفأت النار فجأة وأضرمت في مكانٍ آخر.. أضرمت في رأس "إينانا" الحقيقية الملقاة على الأرض. 

لم تكن هذه نارًا وإنما كانت خيالات أودعتها الشياطين في عين "هازارد".. ويبدو أن ما كان يفعله نجح.. وحضرت من تستقي كل جمالات النساء من جمالها.. حضرت "إينانا".. أو كما يلقبها الرومان "فينوس".. ويتحدث اليونان عنها باسم "أفروديت".. أو كما عبدها العرب باسم "اللات".. حضرت "عشتار" كما يناديها البابليون.. جاءت كما يجب أن تجيء آلهة الجمال.. جاءت في أبهى ثوب وأحلى زينة. 

جاءت كطيفٍ أضاء جوانب هذا المشهد المظلم.. بُهِتَ "هازارد" للحظات أمام عظمة هذا الجمال.. ثم تمالك نفسه وقال لها : 

- "إينانا" أيتها الأميرة.. حدثيني بخبر الساحرين "عزازيل" و"شمهازي".. عن رحلتك المقدسة حدثيني يا "إينانا". 

نظرت "فينوس" بجمال عينيها إليه بنظرة كانت للسخرية أقرب وقالت : 
_51_

- لم يكونا ساحرين يا "هازارد".. ولم تكن هذه أسماؤهما.. بل كان أحدهما يدعى "هاروت".. واسم الآخر "ماروت" .. ولم تكن رحلتي مقدسة.. إنما كانت ملعونة. اندهشت تعابير "هازارد" الصارمة وقال : 

- أرجوك يا سيدة أهل الجمال أخبريني بكل ما رأيت كما رأيت. 

تقدمت "فينوس" بخطوات ملكية إلى منتصف الدوائر المرسومة على الأرض.. ثم رفعت ثوبها الطويل قليلًا وجلست مكانها.. وبدأت تحكي.. 

تقول "فينوس".. 

إنما كنت مبعوثة من قِبَل سحرة "أوروك" إلى مدينة بابل.. وأنت تعلم عظمة مدينة أوروك وتفوقها في علوم السحر.. إنها المرة الوحيدة التي أخرج فيها من مدينتي الحبيبة أوروك.. والمرة الأخيرة في الواقع.. كانت القصة أنه أتى إلى كبار سحرة أوروك نبأ وجود ساحرين في مدينة بابل طغى سحرهما على سحرة بابل كلهم من أكبرهم إلى أصغرهم.. وأن أحدهما يدعى "عزازيل" والآخر يدعى "شمهازي". 

وقيل إن هذين الساحرين يُعلّمان الناس السحر بلا مقابل.. بل ويطلبان ممن يتعلّمه منهما أن ينشره بين أكبر عدد ممكن من الناس أو هكذا قيل عنهما.. كانت مهمتي أن أتعلم منهما كل ما يُعلّمانه للناس وما يخفيانه عن الناس.. وأنت تعرف أنه لم يُخلَق رجل ملكًا كان أو ساحرًا.. شابًا كان أو شيخًا.. أمكنه أن يصمد أمام سحري الخاص.. سحري الأنثوي الخاص.. الخلاصة أنني كنت الوحيدة المناسبة للقيام بهذه المهمة.. وكان عليَّ أن أدوِّن كل أتوصَّل إليه وأنقله إلى سحرة "أوروك". 

المشكلة أن سحر هذين الساحرين أبطَل كل سحرٍ كان يبرع فيه سحرة بابل أجمعين.. كان هذا كلاما عجيبًا جدًا.. فهناك أصناف من السحر في بابل لم يستطع أعتى السحرة في أوروك فهمها.. 
_52_

فضلًا عن معرفة كيفية فكها فكها.. مثل سحر اللوحة؛ تلك اللوحة التي قد رسموا عليها أنهار بابل كلها.. فإذا خالفهم الناس في أمرٍ يريدونه وضعوا إبرة في موضع أحد الأنهار في الرسمة.. فإذا فعلوا هذا توقف جريان النهر الحقيقي وغار ماؤه. وسحر المرآة.. فمن غاب له عزيز كان يأتي سحرة بابل ويقدم لهم ما يطلبونه.. فيسمحون له أن ينظر في المرآة ليرى ذلك الغائب على حاله التي هو عليها.. المشكلة أن سحر هذين الساحرين كان يبطل كل هذا وأكثر منه. 

رائعة هي بابل.. بغضّ النظر عن مهمتي التي لم أكن متحمسة جدًّا لها.. كان لابد من رؤية برج بابل العظيم وحدائقها المعلقة.. ورغم أن هذين كان لا يدخلهما سوى ملك آشور وعائلته إلا أنك تعرف حكاياتي مع الملوك.. وتعرف أن آخر ملك زرته انتهى به الأمر راكعًا تحت قدمي يقبّلهما.. وكنت أعرف أن هذين الساحرين سيركعان تحت قدمي بدورهما وسيُقرّان لي بكل ما تعلماه منذ كانا أطفالًا يلعبان في المروج. 

لكنني منذ أن بدأت أسأل عن "عزازيل" و"شمهازي" هؤلاء كنت أسمع قولًا عجبًا.. قيل لي إن لديهما مغارة على حدود بابل الجبلية.. وأن هذه المغارة يقصدها الآن نفر كثير من أهل بابل.. ومن يذهب إليها يُختبر اختبارًا غريبًا.. فلو فشل فيه يُطرَد ويعود.. ولو نجح فيه يدخل إلى هذه المغارة ويظل فيها سنة كاملة لا يخرج منها.. ولما يخرج.. يكون لديه من الفنون والعلوم ما يفوق عِلم أي ساحر في بابل أو خارج بابل.. ولا يتمكن أي ساحر أن يسخِّره كما يسخر عامة الناس. 

لم تكن المغارة تُفتَح إلا يومًا واحدًا فقط في السنة كلها وتظل بقية السنة مغلقة فلا يقدر على فتحها أعتى الجبابرة.. وقد كان ذلك اليوم الذي تُفتح فيه تلك المغارة قريبًا جدًا.. لطالما كنت محظوظة.. وها أنا ذا يسوقني راع أُعجب بجمالي على حصانه ويتجه بي إلى تلك المغارة.. 
_53_

- ها قد وصلنا أيتها الفاتنة.. هذه هي المغارة.. لا أدري ما الذي يُجبر أميرة من أميرات الإنس أن تدخل إلى هذا المكان. 

- لا شأن لك بهذا أيها الراعي.. انتظرني هنا.. فإن لم أخرج لك عد إلى ديارك. 

- يمكنني أن أنتظرك العمر كله يا أميرتي.. فالديار من بعد رؤياك ستصير قبورًا. 

يحق للراعي أن يقول هذا وأكثر.. فقد كان يحمل "فينوس" بنفسها.. دعنا منه الآن.. لم يكن منظر المغارة يوحي بأن لها شأنًا ما.. كانت مجرد فتحة صغيرة في الجبل.. وكان واقفًا أمامها رجال كثير ونساء.. وقد وقفت معهم حتى خرج لنا الساحران إياهما.. وليتني لم أرهما. 

كانت المرة الأولى التي أرى فيها بشرًا أجمل منِّي.. ليس واحدًا بل اثنين.. وليستا امرأتين بل رجلين.. المرة الأولى التي يخفق فيها قلبي بهذه القوة.. منذ متى كان الرجال بهذا الجمال.. منذ متى كانت الرجولة بهذه القوة.. يبدو أن مهمتي هنا قد فشلت قبل أن تبدأ.. فمجرد النظر إلى هذين الرجلين كان ينسيني ما كنت آتية بشأنه. 

دخلت المغارة مع الساحرين الوسيمين.. وقد أبقى ما رأيته بداخل المغارة شفتاي مفتوحتان من الدهشة.. كيف يمكنني أن أصف شيئًا كهذا.. في البداية حتى يمكنني أن أنقل لك ما رأيته يجب أن تلغي كل الصور التي في ذهنك عن الكهوف والمغارات التي تكون دائمًا ضيقة.. هذه المغارة كانت واسعة كالقصر.. سقفها بعيد جدًّا عن رؤوسنا.. يجري أمامنا نهر أوله عند قدمي وآخره في الأفق.. ينبع من نبع ماء عذب قريب.. الجدران تبدو وكأن بها شيئًا مختلفًا.. فهي ليست صمَّاء ككل الصخور.. بل هي مليئة بالشقوق الصغيرة الدقيقة جدًّا والتي تُظهِر الشكل العام للجدران من بعيد وكأنها مزخرفة.. كانت هذه هي أول صورة قابلَتْها عيناي. 
_54_

أخذنا الرجلان فأوقفانا على حافة النهر الجاري.. وطلبا منا طلبًا غريبًا جدًا.. يبدو أن هذا هو الاختبار الذي يقولون عنه.. طلبا منا واحدًا واحدًا أن نتفل في النهر ثلاث تفلات.. قالا إن هذا اختبارٌ صغيرٌ يعرفان به الساحر من غيره.. كنت الثالثة في الطابور.. تفل الرجل الواقف في بداية الصف مرته الأولى.. نظرت إلى الماء لعلي أرى شيئًا؛ فرأيت نقطة زرقاء تمضي مع النهر في جريانه.. ورأيت مثل هذا في تفلته الثانية والثالثة.. اقترب منه أحد الساحرين الوسيمين وطلب من أحد رجاله أن يأخذه معه إلى صخرة ما لست أذكر اسمها. 

ثم تفل الرجل الثاني.. نظرت إلى المياه فرأيت نقطة حمراء تجري مع جريانه.. ورأيت مثلها عندما تفل الثانية والثالثة.. قال له أحد الساحرين الوسيمين بلهجة معاتبة: 

- ليس هذا مكان لمن تعلموا السحر في مكان آخر. 

وساقه أحد الرجال إلى الخارج.. والآن جاء دوري.. الآن فهمت الاختبار فابتسمت بثقة.. أنا لم أتعلم السحر في أي مكان.. تقلت ثلاث تفلات رقيقة في الماء.. ونظرت إليها فوجدتها كلها زرقاء.. وهنا أخذني أحد الرجال إلى تلك الصخرة إياها التي نسيت اسمها. 

كانت صخرة ضخمة تقف بشموخ في وسط النهر.. وكانت مليئة بالشقوق الصغيرة إياها.. لكن هناك جملة قد كُتِبَت في أعلى الصخرة باللغة البابلية.. جملة تقول " من فُتن بنا فليس منا.. من فُتن بنا فقد كفر".. لم أفهم شيئًا ولم أكترث.. الجميل في هذه المغارة العجيبة أن فيها غرفًا منحوتة في الجدران.. أشعر أن هذه ليست مغارة.. أشعر أنها قرية صغيرة عجيبة.. عرفت معلومة أخرى لم أكن أدري كيف وصل غبائي لئلا يفكر فيها من قبل.. 
_55_

نحن لن نخرج من المغارة إلا بعد سنة كاملة لا ينفتح فيها بابها كما قال الأهالي.. فماذا سنأكل؟ 

كان الطعام هو النواشف التي لا تفسد.. مثل الزبيب والجوز واللوز التي يأتون بها بكميات كبيرة جدًّا ويخزنونها لتكون لنا طعامًا.. والشرب هو من مياه النبع العذبة.. هكذا فهمت كيف تدار الأمور هنا.. لكن بالنسبة لمهمتي فلا أدري.. كل هذا لم يكن بحسباني.. ثم إن الرجلين لم ينظرا لي لأكثر من ثانية.. أنا أعرف الرجال عندما ينظرون إليَّ.. أعرف كيف يتوترون لما يحدثونني.. لكن هذين الوسيمين أشعراني بأني جدار لا تأثير له على أحدٍ.. لكن لم يُخلَق رجل وقف أمام "فينوس".. ولن يخلق. 

في كل يوم كان يمر عليً وأنا في هذه المغارة أعرف مقدار خطورة المهمة التي أُرسلتُ فيها.. علمت أن السحرة الذين كانوا يسخّروننا لخدمتهم إنما هم حثالة الناس يا "هازارد".. بل إن الحيوانات أطهر منكم يا "هازارد".. تعلمت أن قدرتكم الإعجازية هي في الحقيقة ليست قدرتكم وليست إعجازية.. إنما هي قدرات الشياطين الذين بعتم لهم كرامتكم.. عرفت في تلك المغارة معنى الإعجاز الحقيقي.. علمت أن الكواكب السبعة والشمس والقمر التي يُعلمنا سحرتنا أن نتقرب لها ونعبدها ما هي إلا أجرام وأن لها إلهًا واحدًا هو إله "إبراهيم".. وعلى مثل "إبراهيم" تكون المعجزات.. علمت أن كل ماتفعلونه وهم.. وكل ما تقولونه وهم.. علمت أن أولئك السحرة هم أضعف شيء وأن الشياطين هم أضعف شيء.. علمت لكل تعويذة ساحر تعويذة تفكها.. علمت أن "عزازيل" و"شمهازي" هي أسماء شريرة أشاعها السحرة عن الساحرين الوسيمين.. لقد كان اسمهما يبدو أجنبيًّا جدًّا وجميلًا جدًا.. كان أحدهما يدعى "هاروت" والآخر "ماروت". 

"وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" 
_56_

لكن هذين الساحرين لم يكونا يقدمان ملكًا ولا سلطانًا.. ولا يقدمان ذهبًا ولا فضة.. من يخرج من تحت أيديهما يكون مصونًا لا يقدر عليه أعتى ساحر.. لأنه يعرف الحقيقة.. وبالنسبة لي في ذلك الوقت فقد قررت أن أجمع بين الاثنين.. أن أعرف الحقيقة حتى لا يكون لساحر سلطانٌ عليَّ.. وأن ألبس الذهب والفضة.. وليس هذا يأتي إلا بإتمام مهمتي هنا والعودة إلى سحرة أوروك بكل ما تعلمته.. ولكني سأشترط أن أكون أميرة يا "هازارد".. سأملك كل أولئك السحرة وسيركع تحت قدميَّ الجميلتين كل الملوك والسحرة الذين يسيرون الملوك. 

يلقبونني بالزُهرة.. لأن حُسني بين كل النساء كحُسن الزهرة على سائر الكواكب السبعة.. ورجلان مثل "هاروت" و"ماروت" لابد أن لهما رغبات مثل كل الرجال.. مثل كل البشر.. وفي ذات ليلة يا "هازارد".. كان كل من في المغارة يغُط في سبات عميق.. خرجت من غرفتي المنحوتة في الصخر وليس على جسدي الجميل سوى ملاءة صغيرة تبدي أكثر مما تخفي.. إن "فينوس" آتية.. إن سيدة الأقمار السبعة آتية. 

مشيت في هذه المغارة بمحاذاة النبع إلى المكان الذي يُفترض أن يكون غرفة الساحرين.. لم تكن المرة الأولى التي سأرى فيها تلك الغرفة على أية حال.. فلي في هذا المكان ما يقرب من التسعة أشهر.. لكنها كانت المرة الأولى التي أمشي فيها وحدي في المغارة في هذا الوقت.. كانت هناك مشاعل معلقة على الجدران في أكثر من موضع لتضيء المغارة كل الوقت.. فلسنا ندري أفي نهار نحن أم ليل.. ظللت أمشي وأنا أضم ملاءتي الصغيرة على جسدي الفاتن. 

ولما اقتربت من غرفتهما سمعت تراتيلَ كثيرة بأصواتهما الجميلة.. ماذا يقول هذان الرجلان بالضبط وأي لغة هذه.. استجمعت أنفاسي ودخلت.. 

- هل يحرَّم على البشر في ناموسكم أن يتكاثروا؟ 
_57_

نظرا إليَّ بلا اكتراث.. يا إلهي إنهما يشعرانني أني نكرة .. ثم إنني أسقطت عن جسدي ثوب الحياء وظهرت أمامهما كما ولدتني أمي.. قلت إني أريد أن آخذ منهما مالم يأخذه بشر قبلي.. نظرا إلى وجهي.. فقط إلى وجهي.. ثم إن "هاروت" قال لي بهدوء جاد : 

- أن تذهبي عنا الآن هو خير لك.. لئلا يلعنك ربي في الملعونين. 

وقال "ماروت" في هدوءٍ أشد: 

- عودي إلى أوروك مدينة الفرات.. ولا تكفري كما كفر قومك. 

قلت في ثورة : 

- بكم قد كفرت وكفرت بربكم.. ما أنتما ببشر.. أنتما من قبيل الشياطين. 

وتبدلت الأرض غير الأرض ورأيت السماءَ لأول مرة.. لم تعد هناك كهوف ولا شقوق ولا "هاروت" ولا "ماروت".. إن هذا لسحر عظيم.. لا ليس هذا بسحر.. إنما هو معجزة.. جريت إلى بابل وليس على جسدي سوى ملاءة قصيرة تبدي أكثر مما تخفي. 

قال "هازارد" بغضبٍ: 

- ألم تمكثي سوى تسعة أشهر؟ وهل دونت ما تعلمت؟ 

قامت "فينوس" عن الأرض ونظرت إلى "هازارد" نظرة أنثوية تجيدها: 

- لقد استغلني الحثالة أمثالك من السحرة في أوروك ودوَّنوا عنِّي كل ما تعلمته ولم أجد نفسي بعدها سوى جثة مقطوعة الرأس. 

ثم تحولت نظرتها الجميلة إلى نظرة مخيفة وقالت: 
_58_

- لقد أصبحت ملعونة إلى الأبد يا "هازارد".. لُعِنت مرتين.. مرة لما حاولت أن أفتن ملاكين كريمين.. ومرة لما كفرت بكل ما علماني ونقلته إلى الحثالة أمثالك في أوروك. 

تراجع "هازارد" وفقد صرامته مع تقدمها الحثيث منه.. وكانت هذه فرصتها.. لابد أن يكون النكرومانسر قويًّا بما يكفي للسيطرة على الروح التي يود أن يستدعيها.. ولكنه لم يكن يدري.. لقد كانت "فينوس" غاضبة.. وملعونة.. ولقد مزقت روحه شر ممزق.. روحه التي صعدت مع ملائكة العذاب إلى السماء.. السماء التي برق فيها في تلك الليلة كوكبٌ ببريق أحمر جميل.. كوكب الزهرة. 

تمَّت 


***

_59_


تحليل القصة 2


لم تُذكر هذه القصة بكمالها هذا في أي مكان.. إنما ذُكِرَت بشكل مكذوب في التوراة والإنجيل.. وذُكِرَت بشكل مختصر جدًّا في القرآن.. وبسبب هذا الاختصار.. ذكر بعض كبار مفسري القرآن القصة المكذوبة الواردة في التوراة والإنجيل.. وردَّ عليهم المفسرون الكبار الآخرين.. ولقد عرفت القصة الكاملة لأنني ساحر.. نعم.. أنا كذلك.. ولا تجزع.. فأنا ساحر سابق.. ولقد تركت هذا الطريق وصرت أحاربه.. ألم أقل لك إنني على شفا حفرة من الموت؟ 

إن القصة المكذوبة ببساطة هي أن الملائكة ذات يوم عاتبت الله لأنه استخلف على الأرض بني آدم.. وهم الذين سفكوا الدماء وأفسدوا في الأرض أيما فساد.. فقال الله لهم إنه لو أنني أنزلتكم إلى الأرض وزرعت فيكم ما زرعته في ابن آدم من الشهوات لسلكتم مثل سلوكهم.. فرفضت الملائكة ذلك وأصروا على رأيهم؛ أنه يستحيل عليهم أن يفعلوا كما فعل بني الإنسان.. فقال لهم الله أن يختاروا أفضل اثنين منهم فينزلان إلى الأرض.. وسيزرع فيهما ما زرعه من ابن آدم من الشهوات.. وبالفعل اختارت الملائكة اثنين من أفاضل الملائكة.. "هاروت" و"ماروت".. ورزع الله فيهما ما زرع في ابن آدم وأنزلهما إلى الأرض. 

عمل "هاروت" و"ماروت" قاضيين.. وذات يوم مرت عليهم امرأة جميلة هي "إنانا".. وكانت تلقَّب بالزُهرة من جمالها.. فافتُتنا بها على الفور وأتيا إليها يبغيان جسدها.. قالت لهما لا أعطيكما ما تريدان إلا بعد أن تفعلا ثلاثة أمور.. أن تكفرا بالله.. وأن تقتلا نفسًا.. وأن تشربا الخمر.. فرفضا وقالا لا نكفر ولا نقتل.. واختارا شُرب الخمر.. فشربا الخمر فقتلا ثم كفرا.. فلعنهما الله وصارا ملعونين.. وذهبا إلى النبي إدريس ليشفع لهما عند ربهما فتعجب كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ولم يملك لهما من الله شيئًا.. وأصبحا يُعذبان في مغارة معروفة باسمهما حتى قيام الساعة. 
_61_

والحقيقة بالطبع أن كل هذا كذب.. كذب متعمَّد.. القصد منه إخفاء القصة الحقيقية؛ لأن هناك أمورًا من الخير أن تظل مخفية أبد الدهر.. فلا توجد ملائكة تجادل الله في أمرٍ وتتحداه وتقول له بل نحن قادرون.. وليس من مقام الملائكة أن تكفر وتزني وتقتل و تشرب الخمر وتعذب وتلعن.. الحقيقة فقط أظهرها المسلمون.. فهم لما يرون كوكب الزهرة طالعًا في السماء يلعنونه.. ويقولون إن هذا اللعن بسبب أن الزُهرة هي من أغوت "هاروت" و"ماروت".. فلا هما بقاتلين ولا ساحرين.. إنما كانا يُعلّمان الناس طريقة التغلب على سحر سحرة بابل الذين طغوا في البلاد.. ولم تفتنهما "إنانا" ولم يزنيا بها.. بل إنهما قد طرداها.. وهي التي لُعِنَت لأنها حاولت إغواءهما. 

المشكلة أن "إنانا" قد دوَّنَت كل ما تعلمته من "هاروت" و"ماروت" ووصل ما دوَّنته إلى سحرة بابل.. وبدأ السحرة يستخدمون تلك التعاويذ الخاصة بالملكين ويطورونها ويزيدون فيها لتُستخدَم في أغراضهم القذرة.. فالسحر إذن سحران.. سحر علَّمه إبليس للنمرود.. وسحر علمه "هاروت" و"ماروت" لأهل بابل.. وهناك جزء كبير من السحر الثاني وصل إلى أهل السحر الأول فزادوا فيه وحولوه إلى أغراض شريرة.. وهذا هو السر الثاني الذي أهديك إياه. 

وقبل أن نكمل لعبتنا يجب أن أعترف لك بأمر.. نحن لسنا وحدنا.. إن هناك سبعة شياطين تنظر إلينا أنا وأنت بينما نجلس معا جلستنا هذه.. تنظر إلي وأنا أحكي.. وتنظر إليك وأنت تقرأ.. لكن لا تجزع.. فإن هناك تلاوات وتعاويذ كثيرة جدًّا قد ملأتُ بها هذه الغرفة.. تعاويذ لن تصمد طويلا أمام هؤلاء الشياطين السبعة لكنها على الأقل ستعطيني سويعات يمكنني فيها أن أقول كل ما أريد. 

والآن دعني أقلب في هذه الأوراق الملعونة.. ودعني أعرض عليك المجموعة الثالثة.. هي أربعة أوراق فقط.. 
_62_

الورقة الأولى هي ورقة الكهنة وعليها صورة لكهنة مريبي المنظر يرتدون عباءات بنية ذات قلنسوات تغطي رؤوسهم.. 

الورقة الثانية هي ورقة الفرسان وعليها صورة فارس من فرسان الصليب في العصور الوسطى.. يرتدي ذلك الرداء الأبيض المميز لفرسان الصليب والذي يتوسطه صليب أحمر كبير. 

الورقة الثالثة هي ورقة الأسرار التي لم ينبغِ للإنسان أن يعرفها.. وعليها صورة وجه رجل منبهر اكتشف شيئًا ما أبهره.. 

الورقة الأخيرة هي ورقة الجمعة الثالث عشر.. وعليها صورة مليئة بالإيحاءات المظلمة من التقويم المفتوح على يوم الجمعة الثالث عشر. 

وهذه الحكاية سيحكيها لك واحد من الشياطين السبعة الذين يراقبوننا الآن.. لأنها حكاية تتعلق به.. لا تسألني كيف أجعله يحكيها لك بينما هو يجاهد مع قبيله لكسر تعاويذي والدخول إليَّ وقطع رأسي.. هذه الأمور لا تسأل عنها مرة أخرى أبدًا؛ لأنها من أمور السحر الأسود الذي برعت فيه ذات يوم.. ومن أمور الجن التي لن تفهما لأنك لست ساحرًا ولا ينبغي لك أن تكون. 
***

_62_


تسعة أعطيناهم النور
950 قبل الميلاد – 1300 بعد الميلاد


إن أروع شيء يمكنك أن تفعله في حياتك هو أن تبيع روحك لي.. أنا أملك كل شيء.. أملك نفوس الناس.. وأملك عقولهم.. وقلوبهم.. أنا أفتح لك كل الأبواب.. كلها بلا استثناء.. أين تريد أن تصل؟ مال أم سلطة أم جاه أم شهرة.. أنا أعطي بلا حساب.. عطاءً حقيقيًّا سريعًا تلمسه بيدك.. أنا الذي خُلِقت لما خُلِق الزمن.. وسأحيا إلى أن ينتهي الزمن.. إنهم يخفون اسمي عنك.. يوهمونك بأنني سيء.. يريدون أن يحتفظوا لأنفسهم بالكعكة كلها.. لكني سأخبز لك كعكتك الخاصة.. قلها معي ولا تخش شيئًا.. "بافوميت".. اسمي العظيم هو "بافوميت".. لابد أنك تريد أن تراني.. لست مؤهّلًا بعد لهذا الأمر.. لا لنقص فيك يا عزيزي حاشاك النقص.. وإنما لأن قلبك المرهَف لربما يتفتت من عظمة ما يراه. 

لكني سأريك مثلًا لي.. مثلًا يخضع لقوانين عالمك الذي لم أرَ عالمًا بمثل عظمته.. تعالَ معي ياعزيزي.. تعال ولا تخف.. تعال إلى هذه الكنيسة.. أمدد يدك وافتح بابها ولا ترتجف.. أنا أنتظرك.. ادفع الباب بقوة وادخل بأيِّ قدميك تشاء.. دعك من الرجال العرايا الذين يتزاوجون فيما بينهم هنا وهناك.. دعك من الدماء التي على شفاههم وجلودهم.. دعك من كل هذا وتقدَّم.. إلى تلك الطاولة الكبيرة هناك.. هل رأيتني الآن؟ ها أنا هناك في المنتصف.. ها أنا ذا "بافوميت". 

سأحكي لك كل شيء.. من حقك أن تعرف كل شيء.. تعالَ معي إلي القدس.. ليس قدس اليوم.. بل قدسٌ منذ أكثر من ألف سنة.. قدسٌ لم تعد قدسًا.. بل صارت أنهارًا حمراء.. دماء كانت تجري فيها وصلت إلى كعوب الجياد.. دماء المسلمين.. دماء فرسانهم وأطفالهم ونسائهم وشيوخهم.. إن المسلمين أشرار كما سأوضح لك فيما بعد.. لكن هذا ليس نقاشنا الآن.. لن نتحدث عن تلك الأنهار الحمراء التي كانت تجري في شوارع القدس كأنما أضافت فراتًا جديدًا إلى خريطة العالم.. فرات أحمر قانٍ.. الناظر إليها يظن أنما الأرض قد جرحت ودمت. 
_67_

لن نتحدث عن تلك النساء التي كان فرسان الصليب يغتصبوهن بأيادٍ لم تجف بعد من دمائهن.. ولا عن أولئك الأطفال الصغار الذين كانت رؤوسهم الصغيرة مسحوقة تحت حوافر الجياد.. ولا عن تلك القدور التي كان فرسان الصليب يغلونها ويلقون فيها الرجال والنساء والأطفال.. لن أحدثك عن كل ذلك وإنما سأحدثك عن قدس مابعد جفاف تلك الدماء من الأراضي لتقطر من قلوب ساكنيها المسلمين.. القدس المحتلة.. وأسمّيها محتلة لأنه بعد تلك الواقعة احتلها الصليبيون لأول مرة من المسلمين وفي رأيي أنها ليست حقًّا لأي منهما.. إنما هي حقٌّ لنا نحن.. من نحن؟ هذا ما أنا قادم لأحدثك بشأنه. 

حديثنا سيكون عنِّي أنا في البداية.. كنت بائع تحف قديمة عربي في القدس.. لا تستنكر هذا الآن وتسألني عمَّا رأيته على الطاولة في تلك الكنيسة التي أدخلتك إياها سابقًا.. هذا تساؤل سابق لأوانه.. عجوزًا كنت.. أكثر أسناني قد سقطت.. وفي لحيتي سبع شعيرات منثنيات.. وها أنا أجلس نصف عارٍ في أحد حمَّامات القدس الشهيرة.. حمَّام علاء الدين.. وكلمة حمَّام في ذلك العصر كانت تعني ذلك البناء الإسلامي الفخم الضخم ذا الثلاث قاعات (بيوت) والذي يرتاده الناس للاستحمام.. كنت في بيت التسخين.. والبخار يسخن جسدي العجوز.. لم تغب عيناي عن ذلك الشاب المفتول العضلات الذي يجلس بالقرب منِّي في شرودٍ.. كنت أرتقبه منذ أيام.. وهاقد جاءت الفرصة لأحدثه على طبقٍ من ذهب.. اسم هذا الشاب هو الاسم الذي بدأ به كل شيء.. اسمه "هيو بايون".. فارس من فرسان الصليب ذي أصول يهودية.. وأريدك أن تتذكر أصوله اليهودية هذه جيدًا. 

- "هيو بايون".. هل علمت زوجتك "كاثرين" بالأمور الشنيعة التي فعلتها في نساء العرب ؟ 

التفت "هيو" إليَّ وكأنما حية لسعته وقال : 
_68_

- ما.. ماالذي تقوله ياهذا؟ من أنت.. وكيف عرفت اسم زوجتي؟ 

قلت له بصوت كفحيح الحية التي لسعته : 

- "كاثرين كلير".. لقد علمت زوجتك كل شيء فعلته.. كل فتاة اغتصبت جسدها قبل أن تمزقه إربًا بسيفك.. لقد علمت أنك مريضٌ يا "بايون".. ويبدو أنني أسمعها الآن تحكي قصتك لقبيلتك المحافظة كلها. 

قال "هيو بعينين متسعتين مندهشتين: 

- ما الذي.. بل كيف تقول.. من أنت أيها العجوز الخرف؟ 

نظرت إلى عينيه المتسعتين وقلت: 

- أنا عملك القذر يا "بايون".. أنا وجهك الأسود الذي تخفيه وراء قناع الفروسية والتديُّن. 

استيقظ الفارس الكامن في "هيو" وأمسك برقبتي في عنفٍ وقال: 

- من أنت أيها العربي الحقير.. وكيف تجرؤ على التفوّه بهذا الكلام القذر.. وكيف تعرف كل هذا الهراء ؟ 

توقف كل ذي استرخاء عن استرخائه واعتدل مرتادو حمام علاء الدين لينظروا للفارس "هيو بايون" وهو في أكثر لقطاته جنونًا.. حيث يصرخ ويمسك ويهدد العمود الرخامي الذي يجلس بجانبه.. انتبه لهم "هيو" للحظات ثم أعاد النظر إليَّ ليجد فراغًا يزينه عمود رخامي ذو نقوش إسلامية جميلة... أخذ "هيو" ينظر حوله كالمجنون يبحث عنِّي.. ثم ينظر إلى دهشة الناس ويقول : 

- ولكن.. ولكنه كان هنا.. ذلك العجوز.. الخرف.. ألم يرَه أحدكم ؟ 
***

_69_

عيد الزيتونة المسيحي.. أو مايسمونه هنا عيد الشعانين.. تجمَّع سكان القدس من صليبيين حاملين لأغصان الزيتون وحجَّاج ومسلمين فضوليين متفرجين في ساحة قبة الصخرة في الحرم القدسي.. ثم توجهوا في موكبٍ ضخم إلى وادي الأسباط المجاور.. ليقابلوا هناك موكبًا ضخمًا من رجال الدين ورؤساء الأديرة الذين يحمل أحدهم الصليب المقدس.. فيجتمع الموكبان ويعودان ليتجها إلى ساحة قبة الصخرة.. كان "هيو بايون" وسط كل هذا.. ويبدو أنه كان يستحم ذلك اليوم في حمَّام علاء الدين لأجل هذا العيد. 

كان رجال الدين وفي مقدمتهم حامل الصليب المقدس يطوفون حول الساحة.. وفي هذا رمز لطوفان الصليب المقدس حول هيكل سليمان.. كنت هناك واقفًا مع المتفرجين الفضوليين.. اقتربت من "هيو" في هدوء وقلت له : 

- هؤلاء الحمقى لايعرفون أنهم يطوفون وتحت أقدامهم كنز من ملكه ملك العالم أجمع.. ومن خسره خسر العالم أجمع. 

نظر لي "هيو" بدهشة ثم تحولت دهشته إلى غضبٍ وقال : 

- اسمع ياهذا.. لو بقيت أمامي لحظة أخرى سأخفيك من الوجود تمامًا بقبضتي هذه وحدها. 

- بل اسمع أنت يا "بايون".. ستأتيك رسالة اليوم بعد مغرب الشمس من زوجتك في شامبين بفرنسا.. ستحكي لك فيها عن رؤى تراها وتقض مضجعها كل ليلة.. وستصف لك رجلًا.. ولو لم يحدث ما أقوله لك تعالَ إلى متجري في السوق واقتلني.. وإن حدث كما أقول فتعالَ أيضًا إلى متجري وسأخبرك. 

- بماذا ستخبرني أيها المأفون؟ ومالك ومال زوجتي أيها الحثالة؟ 
_70_

مرت بيني وبين "هيو" عدة أجساد كانت كافية لأتوارى عن ناظريه. وفي المساء جاءت ل "هيو" رسالة من زوجته تقول له فيها إنها ترى رؤيا مزعجة تأتيها كل يوم.. ترى رجلًا عجوزًا بأسنان مكسورة يطوف بساحة قبة الصخرة المقدسة وفي منتصف الساحة ترى "هيو" وهو يضاجع فتاة سمراء مقطوعة الرأس وسيفه بجوار رأسها. 

- هل أنت ساحر ياهذا؟ 

نظرت إليه من بين تحفي الأثرية في متجري قائلًا:

- أنا تاجر تحف أثرية كما ترى ياسيدي. 

- كيف عرفت اسم زوجتي أيها اللعين وكيف عرفت بأمر رؤياها ؟ 

- هل أزعجتك رؤياها؟ هل تريدها أن ترى الفتيات الأخريات ومافعلته معهن؟ 

- كيف تعرف كل هذا؟ من أنت بالضبط؟ 

- "بافوميت" 

- ماذا ؟ 

تقدمت بهدوءٍ ناحية أحد الرفوف وأمسكت بتحفة كبيرة تمثل مجسمًا للحرم المقدس كاملًا.. وضعت المجسم على الطاولة الرئيسية وقلت له: 

- أنا أقرأ عقلك ككتاب مفتوح يا "بايون".. أنت الآن تفكر أن تنهي أمورك في القدس وتسافر عائدًا إلى شامبين.. وتفكر ألا تكرر المشاركة في أي حروبٍ قادمة لأن الإثارة التي حصلت عليها في الحملة الصليبية أشبعتك. 

- من أنت؟ 
_71_

- أنا "بافوميت".. "بافوميت" الذي سيحولك إلى أغنى رجل في أوروبا كلها.. بل في العالم كله. 

- ما الذي تريده مني ياهذا؟ لست من النوع الذي يصدق خرافات المشعوذين؟ 

- بالطبع.. بدليل أنك ذهبت إلى "جوليان" الساحر في كلومونت. 

هنا اتسعت عينا "هيو" في دهشة ورعبٍ.. كنت أخبره عن أمورٍ لا يدري بها مخلوقٌ على وجه الأرض سواه.. وعن أسرارٍ لم يحدِّث بها سوى نفسه التي بين جنبيه.. وبدأت لهجته تتحول في الكلام معي من العدائي المندهش إلى المحاوِر المنبهر.. وهذا هو ما أردت الوصول إليه؛ أن يثق بي.. إن الإنسان الذي يثق بك يكون كالمضغة بين أسنانك تفعل به ماتشاء.. وقد مضغت "هيو" وشكَّلته حتى صار كالكرة التي أقذفها أينما أريد.. وقد قذفته أول ما قذفته إلى شامبين بفرنسا.. حيث سيفعل هناك كما أريد له أن يفعل هناك. 

سافر "هيو بايون" إلى شامبين بفرنسا.. وهناك جمع ثمانية رجال.. بعضهم إخوته وبعضهم أولاد عمومته.. وكلهم مثله ذوو أصول يهودية لأنهم من نفس العائلة.. وتوجه بهم جميعًا عائدًا إلى القدس.. ودخل بهم إلى الملك "بالدوين الثاني" ملك القدس الصليبي.. أقنع "هيو" الملك بأنه من اللازم الحتمي أن يشكل تنظيمًا خاصًا من الفرسان لحماية الحجاج الصليبيين الذين يحجون إلى الحرم المقدس ويتعرضون لعمليات قتل وقطع طريق ينفذها المسلمون الحاقدون.. ورغم أن الملك "بالدوين" اقتنع إلا أن "هيو" كان كاذبًا كبيرًا.. فالمسلمون لم يكونوا يقتلون أحدًا بل القتلة هم قُطَّاع طرق المجرمين.. لكن أداء "هيو" كان مذهلًا أمام الملك.. تمامًا كما نصحته أن يفعل. 

بهذا تكون تنظيم الفرسان.. "فرسان الهيكل".. وسُموا بهذا الاسم لأن الملك "بالدوين" قد أعطاهم مقرًّا خاصًا بهم في جناح من القصر الملكي في جبل الهيكل.. 
_72_

وجبل الهيكل كلمة يهودية تعني الحرم القدسي؛ لأن الحرم القدسي في عُرف اليهود قائم على أنقاض هيكل سليمان.. أي أن جناح الفرسان كان بجوار المسجد الأقصى.. تمامًا كما أردت له أن يكون. 

دعني أعلمك أمرًا قبل أن نسترسل في قصة الفرسان.. أنا شيطان كما لابد أنك قد فطنت.. ومعنى أنني شيطان أي أنني أجري من ابن آدم مجرى الدم.. تأتيني أفكاره وكأنها كتاب أفتحه على أي صفحة أشاء.. ليس هذا فقط بل إنني أعدل على أي صفحة أريدها وأناقش ابن آدم فيها حتى تتملكه.. كان سهلًا جدًّا أن يقتنع "هيو" بكلامي.. وسهلًا جدًّا أن يقتنع الملك "بالدوين" بكلام "هيو".. وسهلًا جدًّا أن يقتنع ثمانية رجال بكلامٍ غريبٍ يحدثهم به "هيو".. كل هذا سهل.. سهل لأنني "بافوميت".. سهل لأنني الشيطان.. سهل لأنني ألتف بأفكار ابن آدم كما تلتف الحية حول صيدها.. بل أكثر من ذلك ياصديقي.. أكثر من ذلك. 

لم يسجل التاريخ حالة واحدة حمى فيها فرسان الهيكل أي حاج.. بل أي إنسان كان.. لقد أمضوا أيامهم الأولى في القدس يفعلون شيئًا آخر لا علاقة له بأي حجاج ولا صليب ولا فرسان.. لقد أمضوا أيامهم الأولى في الحفر.. الحفر تحت الحرم القدسي نفسه. 

- أنت أيها العجوز.. لم لا تقترب لتلقي نظرة على الحفر بنفسك.. لِم تقف على طرف الساحة هكذا. 

- لا عليك منِّي.. استمر فيما تفعل.. وإن لم تجد ما وعدتك به فتعالَ واقتلني. 

- بل إنني سأشرب من دمك يا "بافوميت".. لقد بدأت أقتنع بسخف الأمر كله. 

لم أكن أستطيع الاقتراب من ذلك المكان أبدًا.. لو اقتربت منه احترقت كما تحترق الشياطين.. ضيقت عيني العجوزتين وتذكرت أيامًا.. أيامًا في غاية المرارة.. 
_73_

كنت أقف في هذا المكان ذاته.. قبل ألفيْ عام فقط.. كانت أيامًا فقدَ فيها معشر الجن والشياطين كل شيء.. منذ فجر الخليقة ونحن نفعل ما يحلو لنا متى يحلو لنا.. نلعب بالبشر كأنهم النرد.. نحرّكهم كأنهم قِطع شطرنج.. نأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمائلهم ونجري فيهم كما تجري السفن.. حتى رأينا رجلًا من الإنس ألجمنا كما تُلجم الكلاب من أحناكها.. ملك لم يأتِ مثله قبله ولا حوله ولا بعده.. رجل يسمونه "سليمان". 

كنت خادمًا من مردة الجن البنائين.. وهؤلاء كان يستخدمهم الملك "سليمان" لبناء كل ما لا يقدر على بنائه بنو الإنسان.. والشيء الأساسي الذي كنا نبنيه هو القصر.. قصر سليمان.. لم نكن نفهم كيف يحكمنا هذا الرجل بالضبط.. كيف يكلّم الطير ويكلم النمل.. كيف يركع تحت قدميه ملوك الجن يمرغون نواصيهم في التراب من أجله.. نحن الذين أنزلنا السحر على بني آدم.. نحن الذين لو رآنا بنو آدم لفزعوا وماتوا من فورهم.. كيف يُفعَل بنا هذا؟ كيف نُجر على وجوهنا كالبهائم.. كيف لإنسان واحد أن يزيحنا عن الدنيا بنظرة واحدة؟ لم يكن سليمان ملكًا.. ولم يكن ساحرًا.. بل كان نبيا.. نبيًا دعانا فكفرنا.. فلما كفرنا تسلط علينا فسخًرنا من أكبرنا إلى أصغرنا. 

كنت أقف هناك في طرف من هذه الساحة.. مثلي مثل بقية الشياطين.. فلو اقترب أحدنا من كرسيه احترق.. نظرت إليه وهو جالس على كرسيه العظيم.. لم يؤتَ أحد مُلكا كهذا الملك ولا كرسيًّا كهذا الكرسي.. كنت أكرهه.. أمقته.. أحقد عليه.. حاولنا بكافة الطرق الشيطانية وغير الشيطانية للنيل منه لكنه كان يملك شيئًا لا نملكه.. لا ندري ماهو هذا الشيء لكنه كان يملكه.. وفجأة لاح لنا الأمل.. الأمل في الانتقام.. وربما الأمل في الخلاص. 
_74_

لقد مرض "سليمان" فجأة.. ويبدو أن المرض الذي غزا جسده كان على مستوى الجسد الذي غزاه.. مرض حار فيه أطباء الإنس وحكماء الجن.. حتى الطيور أَحضرت له من أطراف الأرض أعشابًا لم تُجدِ معه أي نفع.. مرض جعل "سليمان" عندما يجلس على كرسيه العظيم يجلس وكأنه جسد بلا روح.. كأنه ميت من فرط الإعياء والسقم.. وكان هذا المرض يزيد كل يوم عن اليوم الذي يسبقه.. وظلَّ يزيد ويزيد حتى صار جسده هامدًا لا يقدر على شيء.. وكانت هذه هي فرصتنا للانتقام. 

لم نكن نستطيع مجرد الاقتراب من كرسيه.. ولم نحتج إلى ذلك لأن الرجل قد دخلت في جسده ذَرَّة واحدة من مرض فعلت به ما عجز عن فعله كل شيطان زنيم.. وبدا واضحًا أن هذه الذَّرَّة ستقتله إن عاجلًا أم آجلًا؛ لذا اتخذ انتقامنا شكلاً آخر.. شكلًا شيطانيًا آخر.. ظللنا نعمل في ساحة الهيكل تلك وكأن شيئًا لم يكن.. لكن أحدًا لم ينتبه إلى أننا في الحقيقة لم نكن نعمل لبناء قصر"سليمان".. لقد كنا نحفر تحت كرسي "سليمان". 

جئنا بأعظم وأمهر كتبة الجن ووجعلناهم يكتبون كتبًا أملينا عليهم فيها كل ما كنا نعلمه للناس من السحر في الماضي.. السحر الأسود الذي تبلغ شدته أن لو قرأت سطرًا واحدَا منه صدفة أصابك شره.. ليس هذا فقط وإنما كتبنا أيضًا كل ما تعلمناه من "هاروت" و"ماروت" ذلك السحر الذي زاد على السحر الأسود شدة حتى أصبح يبطله.. لكنا كتبناه بطريقتنا ليستخدم في الأمور التي نريدها.. وأضفنا إلى السحرين كل ما جاء به الجن المستمع من خبر السماء مما سيحدث على الأرض.. تسألني لماذا نفعل هذا؟ وما دخل هذا بالانتقام من سليمان؟ ها أنا سأجيبك على الفور. 

لقد جمع "سليمان" كل كتب السحر في مملكته وأحرقها بل إنه قتل كل ساحر في عصره وحتى من اشتُبه بأنه ساحر.. وهدد بقطع رقبة كل من يستمع شيئًا من خبر السماء من الجن ورقبة كل من يقول من الإنس أن الجن يعلمون خبر السماء.. أحبط "سليمان" عملنا كله بسبب قدرته علينا.. وكان لابد لنا أولًا أن نحتفظ بكل عِلمنا هذا في كتب لأن "سليمان" جاء ووضع لجنسنا قواعد تمنعنا من الاتصال بالإنس تمامًا مهما بذلنا في ذلك من جهد.. أعني الاتصال المباشر.. 
_75_

لكن كان لازال بإمكاننا الدخول إلى قلوبهم وعقولهم والوسوسة فيها بما نريد.. ولا زال بإمكاننا أن نتمثل في هيئة بشرية أو حيوانية.. لكن لم يكن بإمكاننا أن نضرهم إذا أردنا.. ولا أن نتصل بهم ونعلّمهم فنون العلوم كما كنا نعلمهم قبل "سليمان".. ولما قتل "سليمان" السحرة وأحرق كتب السحر الأسود منع رجال الإنس أن يتواصلوا معنا.. ولم يبقَ على الأرض إلا سحر القرى البعيدة.. أما سحر بني إسرائيل الأسود فقد أحرقه "سليمان" عن بكرة أبيه. 

هذه الكتب لم تكن لأجلنا فأمثالنا لاوجود للكتب في عالمهم.. إنما كانت هذه الكتب لأجل الإنس.. حتى يستمر ويعيش الوصل بينهم وبيننا.. أما "سليمان" فبعد أن يقتله مرضه ويموت.. سنوسوس لأشد الناس شرًّا أن يُخرجوا تلك الكتب.. وسنعلّمهم أن هذه كتب "سليمان".. وكيف أنه كان ساحرًا لعينًا.. وسيظلوا يلعنوه إلى يوم الدين.. هكذا نكون قد حفظنا علومنا وانتقمنا ممن أحرقها وأهان جنسنا. 

ظللنا نحفر ونحفر وكأننا نعمل في أعمال البناء خاصتنا.. لم ينتبه "سليمان" لما نفعل.. حتى حفرنا لعمقٍ بعيدٍ جدًا.. مسافة أسفل الكرسي لا نحترق لو دخلنا فيها.. مرت خطتنا بسلامٍ تام.. كانت قلوبنا الشيطانية تنبض بالخوف.. فمثل "سليمان" لا يؤمَن جانبه أبدًا.. وبنينا بنيانًا أسفل الكرسي ووضعنا الكتب كلها فيه.. ثم ملأنا ما حفرنا بالتراب حتى اندثر تمامًا.. ومرت حكايتنا بسلام.. مرت بسلام بعد شهر كامل من العمل الشيطاني الذي لا ينقطع. 

استمر مرض "سليمان" أربعين يومًا حتى شُفي منه فجأة.. وعاد من مرضه أقوى وأشد وأقدر وأعظم مما كان قبله.. أصبح "سليمان" يملك الريح يأمرها كيف يشاء.. أصبح قادرا على تسخير الجن الغواص الذي كان يستخرج له اللؤلؤ والأحجار الكريمة من قاع البحر ليزين بها مانبنيه نحن الجن البنّاء.. 
_76_

وأصبح قادرًا على نوع آخر من الجن.. جن آخرون سلسلهم كالوحوش بسلاسل عظيمة من فرط طغيانهم.. جن أمثال "لوسيفر" العظيم الذي كان مُسلسلًا.. إنها المرة الوحيدة التي أرى عظيمنا مهانًا بهذا الشكل.. لم نكن نفهم شيئًا.. حقًّا لم نكن نفهم أي شيء.. مرت فترة حُكم "سليمان" علينا صعبة مريرة حتى انتهت بموته الذي اكتشفناه بالصدفة.. وتحررنا من عبوديتنا.. وظللنا ننتظر الفئة المناسبة التي يُمكنها أن تخرج هذه الكتب ووتستخدمها كما نريد بالضبط.. فئة انتظرناها طويلًا جدًا.. حتى ظهرت في التاريخ فجأة فئة يهودية تحمل في مكامنها كل بذور الشر التي كنا نبحث عنها.. وها أنا أراهم أمامي يحفرون ليصلوا إلى كتبنا.. كتب السحر الأسود. 

- "بافوميت" انظر هناك جدار مستوٍ هنا.. تعالَ أيها العجوز . 

نظرت إليهم نظرة أخيرة بدت لهم غامضة.. ثم إنني طرت كما تطير الشياطين مبتعدًا عنهم وعن الساحة.. بل عن عالم الإنس كله.. طرت إلى حيث أنتمي.. وتركت فرسان الهيكل يضربون الجدار المستوي بحماسٍ.. لقد أديت اليوم عملًا عظيمًا انتظره بنو جنسنا سنينَ كنا نظنها لاتنتهي. 

وجد فرسان الهيكل الكتب التي خبأتْها الشياطين منذ ألفيْ عامٍ كاملة.. لم يفهموا معنى أن تكون هذه الكتب كنزًا.. كانوا يريدون كنزًا من الذهب واللؤلؤ ولكن هيهات.. إن "سليمان" كان قد طلب من ربه الذي كان يدعو إليه أن يجعل ملكه لا ينبغي لأحد من بعده.. فستفنى الأرض ويفنى التاريخ وليس لأحد من أهل الأرض ولا أهل السماء أن تكون له قطعة معدنية واحدة كان يملكها "سليمان".. ولن يأتي ملك يمتلك كما امتلك "سليمان". 

ولهذا عجزت كل علوم الإنسان أن تعثر على أي أثر من ملك "سليمان" حتى إن البعض اعتبره أسطورة من أساطير الأديان.. 
_77_

لكن الواقع أن الأسطورة الحقيقية هي هيكله.. لازال هناك من يحلف ويملأ الأرض صراخًا بأن الهيكل تحت الحرم القدسي.. لكن الحقيقة أن الهيكل يعني المعبد و"سليمان" لم يبنِ أي هياكل أو معابد بل كان يبني مساجد.. لقد كان يؤمن برب "إبراهيم" و"موسى".. إنما كان "سليمان" يكسر ظهورنا في بناءات أخرى.. منها تجديد بناء المسجد الأقصى الذي بناه "آدم".. ومنها بناء قصره المهيب الممرد من قوارير أي الزجاج الفاخر.. هذا القصر الذي كان يعتبر أروع شيء في ملكه. 

نحن فقط نعرف أين هي كنوز "سليمان" ونعرف أين قصره بالضبط.. إن طائفة من جنسنا كانت تؤمن به وبدعوته خبأت هذه الكنوز في باطن الأرض وخبأت قصره بطريقة لا يستوعبها أمثالك من الإنس.. بالنسبة للكنوز فهي في بطن بلدان معينة في الشرق الأوسط أبرزها العُلا في الجزيرة العربية.. ويقف حارسٌ أمينٌ على هذه الكنوز أشد أهل تلك الطائفة من الجن فتكًا.. فهي محروسة من الجن.. وستظل كذلك حتى تفنى الأرض.. ذهب ولؤلؤ ومرجان.. كنوز تُشع كما الشمس والقمر.. لكنها لن تكون لإنسيٍّ ولا جنيّ من بعد "سليمان". 

الخلاصة أن فرسان الهيكل لم يجدوا شيئًا سوى الكتب التي كتبها كتبتنا.. كانت تلك الكتب كنزًا من نوع آخر.. كنزًا حقيقيًّا من العِلم سيغير وجه التاريخ بأكمله.. كنز مسطر بأيادٍ شيطانية.. بعقول شيطانية.. لعلماء شياطين.. اعتزل الفرسان الناس وقرأوا تلك الكتب كلها.. ومع كل صفحة يقرأونها كان ينكشف لهم سر من أسرار هذا العالم لا ينبغي على الإنس أن يعرفوا عنه شيئًا. 

دعني أُدخلك الآن إلى تلك الكنيسة التي أدخلتك إياها في بداية حديثنا.. الآن انظر إلى كل شيء حولك بتمعن.. هؤلاء هُم فرسان الهيكل.. هل تسألني لماذا يمارسون الشذوذ الجنسي مع بعضهم على الأرض بهذا الحماس؟ أم تسألني لماذا يشربون من كأس الدم ذاك؟ ما كل تلك الرموز؟ سأقول لك إن هذه طقوس ربما تبدو غريبة للوهلة الأولى لكنها توصلك إلى أصل النور.. توصلك إلينا.. انظر مرة أخرى إلى تلك الطاولة.. 
_78_

انظر إلى الرأس المثبتة في منتصفها.. إنها رأس "بافوميت".. رأس الشيطان.. رأس الشيطان التي تتحدث إليك الآن.. وتتحدث إليهم كلما أنهوا طقوسهم.. لقد باعوا أرواحهم وأجسادهم وأخلاقهم لأجل الشيطان "بافوميت". 

تسألني ماذا أخذوا في المقابل؟ تريد أن تأخذ كما أخذوا؟ لقد أخذوا مالم يأخذه أحد على وجه الأرض في زمنهم.. لقد عاد فرسان الهيكل إلى أوروبا.. وتحولوا من مجرد فرسان فقراء متقشفين إلى أغنى فئة في أوروبا كلها بل في العالم كله آنذاك.. بلغ من غِناهم أن الملوك والأمراء كانوا يقترضون منهم.. وبلغ من شرفهم بين الناس أنهم كانوا أشرف وأعظم تنظيم عسكري عرفه الصليبيون في تاريخهم.. نعم لقد كوَّنوا تنظيمًا عسكريًّا أذاق المسلمين الويل في الحملات الصليبية.. حتى إن "صلاح الدين" لما أسرهم ذات مرة قتلهم كلهم.. خلاف ما كان يصنع مع باقي الأسرى.. وسبب هذا الإجرام الذي فيهم أنهم كانوا يختارون المجرمين من فئات الشعب ويقولون لهم.. هاقد آن أوان المجرمين والسارقين أن يتحولوا إلى فرسان.. كان مظهرهم الخارجي رائعًا.. لكن أحدًا لم يكن يعلم لماذا يغلقون كنائسهم على أنفسهم دائمًا.. نحن فقط من كنا نعلم كل شيء.. نحن أعطيناهم النور.. وسنظل نعطيهم النور حتى يصلوا به إلى حامل النور.. إلى أنتيخريستوس. 

وفجأة انكشف كل شيء.. استيقظت أوروبا على فضيحة.. خبر القبض على فرسان الهيكل.. فجأة بدون سابق إنذار أصدر الملك فيليب أمرًا باعتقالهم كلهم.. كان يبدو أنه كان يبحث عن ذريعة ما ليتخلص تمامًا منهم بعد أن وصلوا إلى مستوى من الثراء جعلهم دائنين لأكثر ملوك أوروبا ودائنين للملك فيليب بنفسه.. لكنه لم يحصل على ذريعة.. لقد حصل على فضيحة تهتك بها ستر فرسان الهيكل وطٌعن بها شرفهم.. لقد وصلت له أخبار أنهم يمارسون السحر ويهينون الصليب. 
_79_

كان حدثًا هامًا في تاريخ أوروبا ذلك الذي ستشاهده الآن.. في يوم الجمعة الثالث عشر.. نُصبَت أخشاب على منصّات في أكثر طرقات باريس أهمية.. أخشابرُبِطَت عليها أجساد كانت لفرسان.. فرسان تصورت شعوب أوروبا أنه ينحدر كل شرف من شرفهم.. فرسان كانت تلك الشعوب تُقدِّم لهم أبناءها حتى ينالهم شرف يظل يضيء في رؤوسهم كالنجوم في حياتهم وبعد مماتهم.. نجوم يبدو أنها قررت أن تأفل الآن فجأة.. وشرف قرر أن تسيل دماؤه على الأرض فجأة.. أخشاب رُبط عليها زعماء فرسان الهيكل.. وقد تجمّعت أمم نزلت من بيوتها وغادرت أحياءها لتقف أمام تلك المنصات بعيون طغت عليها حيرة وحزن وغضب.. وعيون أغمضت جفونها غير قادرة على متابعة ما صعد أولئك الجنود فجأة لفعله.. صعدوا على المنصات المربوط عليها الفرسان.. وأوقدوا نارًا. 

ضج الجمع بصوت لا تدري عم يعبِّر بالضبط.. لقد قرر الملك "فيليب" إحراق زعماء فرسان الهيكل؛ إحراقهم بتهمة ممارسة السحر الأسود.. وتهمة البصق على الصليب وإهانته.. وتهمة ممارسة اللواط في الكنائس.. وتهمة تحضير أرواح شيطانية.. وتهمة إنكار المسيح.. تهم اعترفوا بها كلها بعد أن جمعهم الملك "فيليب" وعذبهم أبشع تعذيب يمكن أن يخطر على بالك.. المشكلة أن الجنود لم يوقدوا نارًا عادية.. لقد أوقدوا نارًا هادئة.. كان الملك "فيليب" يريد لهم أن يموتوا ببطءٍ.. ووقف الخلق ينظرون إلى هذا كله. 
_80_

إلى الكنيسة التي دخلتها معي نعود لننظر.. جنود دخلوا ليزيلوا كل أدوات فرسان الهيكل وأغراضهم.. جنود كانوا يفتشون كل شيء ويبعثرون كل شيء.. حتى وصلت أياديهم إليَّ.. رأس مجففة موضوعة في صندوق فضي مزيَّن بنقوش غريبة ومثبته بوضع رأسي.. تقزز أحد الجنود فأمسك بي ورماني بعيدًا لأسقط على الأرض تحت تمثال لصليب منكس على رأسه.. انظر إلى عينيَّ جيدًا ولاتقلق.. لقد أخفى الفرسان كل الكتب التي حصلوا عليها من الحفر.. إن من قبض الملك عليهم لم يتعدوا نصف عدد الفرسان.. الفرسان الباقون هربوا إلى مكانٍ آخر.. مكان ليس فيه "فيليب".. مكان كان يصارع للحصول على استقلاله من إنجلترا بقيادة "ويليم والاس".. لقد هرب الفرسان إلى اسكتلندا. 

تمَّت 

***

_80_



تحليل القصة 3


لهذا صار الجمعة الثالث عشر يومًا مشؤوما.. لكن بعد هذه الحكاية أنا أقول إنه كان يومًا سعيدًا.. إن قصة فرسان الهيكل معروفة في كتب التاريخ بنهايتها المشؤومة بإحراقهم أحياء.. لكن كتب التاريخ الأجنبية تحتار دائمًا كلما أتت على ذِكر الشيء الذي كان التسعة فرسان الأولون يحفرون تحت الحرم القدسي لإيجاده.. وتذكر هذه الكتب العديد من الروايات والتكهنات.. ذكروا في رواية واحدة من الروايات أن الفرسان لما حفروا وجدوا كتب السحر.. وما يجعل هذه الرواية هي الصحيحة هو وجود مقابل لها من أمهات كتب تفسير القرآن.. حيث أجمع المفسرون أثناء تفسيرهم لآية "هاروت" و"ماروت" في القرآن.. أن الشياطين دفنت كتب السحر تحت كرسي سليمان.. أي تحت الحرم القدسي.. وأن هناك أناسًا أتوا بعد ذلك تهيأ لهم الشيطان في هيئة بشرية وأراهم مكان دفن تلك الكتب.. فاستخرجوها.. لكن المفسرون لم يعرفوا من هُم أولئك الناس الذين تهيأ لهم الشيطان واستخرجوا الكتب.. الجمع بين كتب التاريخ الأجنبية وكتب التفسير العربية يُظهر لك القصة الحقيقية التي حدثت.. ذلك الجمع الذي لم يُكلف أحد من الناس نفسه ويفكر فيه.. وها أنا أقدمه لك اليوم على لسان الشيطان الشهير الذي كان فرسان الهيكل يعبدونه كما اعترفوا بلسانهم.. الشيطان "بافوميت". 

إن شكل "بافوميت" سيبدو مألوفًا لديك.. هو الجدي الذي يجلس متربعا ويرفع إحدى يديه ويخفض الأخرى.. وهو الجدي الذي يضعون رأسه دائمًا داخل نجمة داوود في ذلك الرمز الشيطاني الشهير الذي يدعى "بصمة الشيطان".. وقد قال عنهم الساحر الشيطاني "أليستر كراولي" إنهم زملاء عبادة الشيطان.. بينما يقول عنهم عابد الشيطان الشهير أنطون ليفي "لقد أعدت إحياء طقوس فرسان الهيكل" والشيطان "بافوميت" معبود الفرسان مرسوم في رسمة شهيرة جدًّا والفرسان يحملونه في أحد معابدهم إكبارًا وإجلالًا. 
_83_

ويبدو أن كتب السحر والعلوم تلك علمت فرسان الهيكل الكثير.. فحقًّا صاروا أغنى أغنياء أوروبا.. وعملوا أول منظمة بَنكية في العالم تقرض العامة والخاصة والملوك والأمراء نقودًا.. ولأن الفائدة كانت محرمة في الكنيسة الكاثوليكية فقد تحايلوا على النسبة وسموها الإيجار أو الرسوم. 

وقد هربوا إلى اسكتلندا لأنها كانت البلد الوحيدة التي لا تخضع للكنيسة الكاثوليكية.. وقد استقبلهم ملك اسكتلندا "روبيرت البروس" بحفاوة كبيرة وكانوا سلاحه السري الفتاك الذي هزم به الإنجليز وحصل به على استقلاله.. وصارت لهم هيبة في اسكتلندا.. وبدأوا مرة أخرى في بناء معابد لهم في اسكتلندا مليئة برموزهم الشيطانية.. ولكنهم تعلموا الدرس هذه المرة مما حدث لهم في إنجلترا.. تعلموا أن يجعلوا تنظيمهم هذا مخفيًّا عن العامة تمامًا.. وغيَّروا اسمه اتقاءً للشكوك.. سموا تنظيمهم اسمًا سيبدو مألوفًا لديك: البنائين الأحرار.. أو كما تُنطق بالإنجليزية Freemasons .. الماسونية. 

وفي اسكتلندا أيضًا أكملوا ممارسة ما كانوا يمارسونه.. ليس في كنائس وإنما في مباني سمّوها بالمحافل الماسونية.. والمحفل هو مبنى مصمم من الداخل على تصميم هيكل سليمان المزعوم تمامًا.. وهو المبنى الوحيد الموصوف في التوراة وصفًا تفصيليًا. 

تعلموا أن سِرَّ قوتهم هو الخفاء وعدم الظهور.. ومن العِلم الشيطاني الذي بحوزتهم والذي لا يحوزه غيرهم طوَّروا من أنفسهم ومن منظمتهم.. تعلَّموا طريقة عجيبة لإخفاء الكتب التي بحوزتهم إخفاء لا يشك به أحد.. تعلموا طريقة تشفير سرية لم تُعرف من قبل في التاريخ.. هذه الطريقة هي المعمار. 

ابتكروا طريقة معينة في المعمار اسمها الجوثيك أو الطريقة القوطية.. طريقة شيطانية تكون فيها المباني مزيَّنة ومزخرفة بالكثير من الزخارف والرموز والتماثيل والنقوش بطريقة تبدو جميلة جدًّا ولكنها في الحقيقة طريقة تخزين لكل الأسرار بشفرة ليس كمثلها شفرة.. 
_84_

وبنوا بهذا الطريقة الكثير جدًّا من المباني والمحافل وحتى الكنائس.. وانتشرت في كافة أنحاء أوروبا.. وفي طريقة الجوثيك في البناء يمكنك أن ترى رموزًا وتماثيل شيطانية كثيرة لبافوميت ولغيره.. ولا أحد يفهم معناها ويظنونها نوعًا من الديكور. 

واسم البنائين الأحرار سمّوا أنفسهم به بسبب ابتكارهم لهذه الطريقة وحدها في البناء.. وأصبح رمز منظمتهم هو مسطرة المعماري والفرجار. 

ومرة أخرى صار فرسان الهيكل بنمظمتهم الخفية الجديدة "الماسونية" هم أغنى أغنياء أوروبا.. فلا شيء يمكن أن تعطيه لك الشياطين بسخاء أكثر من المال والذهب.. وأصبح خفاؤهم هذا هو سر قوتهم.. فلا أحد يمكنه أن يدمر شيئًا خفيًّا. 

ستسمع كثيرًا عن الماسونية مسامع كثيرة تفتقر كلها إلى الدقة.. وهذا متعمَّد.. لأنهم يريدون إخفاء حقيقتهم عن الجميع.. أما أنا فسأخبرك بالحقيقة وحدها.. فأنا ماسونيٌّ سابق.. ها أنت تعلم سِرًّا جديدًا عنِّي. . 

أنا ماسوني من الدرجة الحادية والعشرين.. وهي درجة متقدمة جدًا.. فعدد الدرجات في الماسونية 33 درجة.. ومن تدرُّجي في الماسونية تعرفت إلى السحر وأصبحت ساحرًا.. وليس كل من يتدرجوا يصيرون سحرة.. فقط بعض من يختارون لأنفسهم أن يكونوا سحرة. . و كنت واحدًا من هؤلاء.. وها أنا قد تركت كل هذا ورميته خلف ظهري وجلست هنا أمامك لأبين لك الحقيقة وحدها. 

الماسونية باختصار شديد غير مخ ل هي السبط الثالث عشر لبني إسرائيل.. فاليهود كما تعرف أو لا تعرف قطعهم الله كما قال في القرآن إلى اثني عشر سِبطا.. والسِبط هي الفرقة.. أي أن الله فرّقهم إلى اثنتي عشرة فرقة.. لكل فرقة منها نظامٌ خاصٌ في معيشته.. أما الماسونية فهم جماعة من اليهود الذين شذّوا عن هذه الفِرَق جميعًا وقرروا أن يُنشؤوا لأنفسهم سِبطا يهوديًّا خاصًا.. 
_85_

السِبط الثالث عشر.. ومهمة هذا السِبط ببساطة هو إعادة بناء هيكل سليمان في القدس.. لا تسألني الآن لماذا يريدون فعل ذلك.. لأني سأخبرك لاحقًا.. لكن حاليًا كل ما يجب عليك أن تعرفه هو أن الشياطين هي التي أوحت لهم بفعل هذا.. أرى نظرة استخفاف في وجهك بسخف الأمر كله.. لكن لا داعي للعجلة.. فستفهم كل شيء لاحقًا. 

واعلم أن الماسونية والكابالا هما نفس الشيء.. فالكابالا هي الأسرار الشفهية اليهودية التي زعم اليهود أن الله أوحى بها إلى موسى شفهيًّا.. ولأنها أسرار فإن "موسى" كان لا يكتبها.. وإنما يختار كبار تابعيه ويخبرهم بها شفهيًّا.. إن في الكابالا 33 درجة من درجات الحكمة.. ومن يسير عليها يصير في النهاية قادرًا على التوحد مع ربه.. ولهذا صارت الماسونية 33 درجة أيضًا.. والدرجة ال 33 هي درجة فخرية لتسجيل المنضمين فيها إلى السبط الثالث عشر لبني إسرائيل. 

ولهذا صرت ساحرًا.. لقد اخترت لنفسي هذا الطريق لأن فيه علومًا عجيبة جدًا.. فلديهم على سبيل المثال لا الحصر سِرٌّ من أعظم أسرار الكابالا تعلمته في الدرجة الماسونية ال 91 .. وهو طريقة قتل الناس بنظرة واحدة فقط.. هذا ما يدعى عين الشر.. أو كما يقولون "إن ها رع".. وهي طريقة تستقي مبادئها من مباديء العين والحسد.. فالعين والحسد قادران على أذية أي إنسان.. لكن كيف يمكنك أن توظف هذه القوة وتوجهها وتتعلم التحكم بها تحكُّمًا كاملًا.. هذا ما تعلمته وأثارني. 

هناك إصدارات كثيرة تفرعت عن الماسونية قد تكون سمعت عنها.. الصليب الوردي أو الروزكروشن.. الجمجمة والعظام.. الكلوكلوكس كلان.. الإيلوميناتي ولكل منظمة منها مهمة معينة.. لكنها كلها تستقي من نبع الماسونية ونبع منظمة فرسان الهيكل القديمة. 
_86_

والآن لدينا ثلاثة أوراق جديدة وضعتُهم أمامك على الطاولة.. ولنكمل لعبتنا الملعونة مع الشياطين قبل أن يُجهزوا علينا.. 

الورقة الأولى هي ورقة الكأس المقدسة وهي ترمز للمسيح عيسى.. وعليها صورة للكأس المقدسة التي شرب منها المسيح على طاولة العشاء الأخير.. 

الورقة الثانية هي ورقة الحربة المقدسة.. وعليها صورة الحربة المقدَّسة التي طعن بها جنب المسيح المصلوب للتأكد من موته.. 

الورقة الثالثة هي وقة الجهاد.. وعليها صورة رمزية للمجاهدين المسلمين. 

وهذه الحكاية سوف يحكيها لك شيطان ثانٍ من الشياطين السبعة الذين يراقبوننا.. وليس عليك إلا أن تصمت وتتابع حديثه.. فسيأخذنا بعيدًا عن السحر والماسونية وكل هذه المصطلحات المظلمة إلى عالم آخر.. عالم ربما يكون أكثر إظلامًا من هذا كله. 


***

_87_


أفخر أنواع السموم
400 قبل الميلاد 660 – بعد الميلاد


ستنظر إلى خريطة عالمك بتمعًّن.. ستبحث في أرجائها عنِّي.. لكنك لن تجدني.. رغم أن عالمك يحترق عن بكرة أبيه.. لكنك لن تجدني.. فأنت تنظر إلى الخريطة الخطأ.. ها أنت ذا تتدارك نفسك وتزيح هذه الخريطة الجغرافية جانبًا وتفتح خريطة أخرى.. خريطة تاريخية.. وتنظر في أرجائها بتمعُّن.. ومرة أخرى لم تجدني.. هنا تقرر أن يتخذ بحثك صبغة رقمية.. فتفتح أقرب جهاز كمبيوتر إليك وتنظر إلى شاشته الحديثة في اهتمام.. ها أنت قد أحضرت الخريطة التاريخية إلى الشاشة.. وكنوع من التأثيرات الرقمية المحببة إليك أوقد لك الكمبيوتر نيرانًا في أماكن بعينها من الخريطة.. نظرت إلى النيران بعين اتقدت حماسًا.. أنت تراني الآن.. تراني أزحف على خريطة عالمك ببطءٍ.. صغيرًا كنتُ في البداية.. حتى تقع إحدى نقاط الخريطة بين أنيابي.. فألتهمها.. فيكبر حجمي.. ثم أزحف.. ثم ألتهم فأكبر.. ثم أزحف.. وأوقد النيران.. وأنفث السم من بين أنيابي في كل مكان أجول فيه.. لقد عرفتَ الآن إلى من تنظر.. لقد كنت تنظر إلى "سيربنت".. الثعبان. 

بدأت الزحف أول ما بدأت في بابل.. الأرض الملعونة.. قبل أكثر من أربعمئة سنة من ولادة المسيح.. كان هناك يهود كثيرون.. شُرِّدوا من فلسطين.. وأُخِذوا إلى بابل عبيدًا مذلولين.. ناقمين حاقدين.. كارهين لأنفسهم ولدينهم ولربهم.. يحملون التوراة في أيديهم بعد أن سقطت من قلوبهم.. ماعادوا يصدّقون بكل الوعود وعدهم بها ربهم.. لقد أصبحوا عبيدًا الآن.. نساؤهم حلال ودماؤهم حلال.. تحطمت بلادهم ومقدساتهم وأحلامهم.. وعملوا بحسرتهم تحت أقدام أجنبية بابلية قاسية.. حُرِقَت أرضهم وحرًقت قلوبهم وحُرِقَت كرامتهم. 

وفجأة لاح الأمل.. كانت الغيمة البابلية السوداء التي حطت على تاريخهم على وشك الزوال.. وانهزمت ممكلة بابل على يد مملكة فارس.. وسمح الفارسيون لليهود أن يعودوا إلى بلادهم.. وقبل أن يعودوا إلى رشدهم وإلى توراة ربهم.. فتحت فكيَّ عن آخرهما.. ونفثت نفثة مسمومة شيطانية تلقّتها قلوبهم المريضة بترحاب.. 
_91_

واجتمع كبراؤهم بكبرائهم.. وخرجوا للعالم بكتاب مقدس جديد تفوق قدسيته قدسية التوراة.. وضعوا فيه أشد عقدهم وأفكارهم سوادًا ممزوجة بأشد سمومي فتكًا.. خرج "التلمود" إلى العالم كشيطان مريدٍ وضع التوراة تحت قدمه.. وقالوا إنما التلمود هو الأسرار الشفهية التي تلقاها موسى من ربه.. وسموا هذه الأسرار الشفهية "الكابالا".. ثم ألقى موسى الكابالا إلى خاصته منهم.. فألقاها الخاصة إلى الخاصة.. حتى قرر خاصة الخاصة أن يكتبوها لئلا تضيع.. ولما كتبوها صارت كتاب التلمود.. من الرائع أن ترى أناسًا مخلصين لأفكارك التي بثثتها في نفوسهم.. من الرائع أن أصعد إلى هذه المنصة المقدَّسة وأنظر إلى هذا التلمود الموضوع عليها بعناية.. يتملكني الفضول لأقرأ.. 

" إن الله لم يعد يلعب مع الحوت ولم يعد يراقص حواء كما كان يحب أن يفعل.. فأنى له أن يلعب ويرقص وقد تسبَّب في دمار الهيكل.. لقد أمسى في كل ليلة يزأر كالأسد ويقول تبًّا لي لأني سمحت بخراب بيتي.. سمحت بخراب الهيكل.. لكن صبرًا أيها اليهود.. فالله لديه ما سيسركم.. صبرًا فإن المُخَلِص سوف يأتي.. من بين جنبات الظلام سيأتي.. وسيعيد بناء هيكل الرب.. لكن أيها اليهود.. لن يأتي صاحبكم إلا إذا انتهى حُكم الغوييم.. أنتم أيها اليهود وحدكم البشر.. أما غيركم فهم غوييم.. والغوييم ليسوا بشرًا.. بل هم حيوانات.. حيوانات قد سخَّرها الإله لخدمتكم.. وإنما صوَّرها على هيئة بشرية ليتسنى لها القيام بهذه الخدمة.. اعلموا أن قتلكم الغوييم هو قربان إلى الله.. ولو أن أحدكم رأى واحدًا من الغوييم قد وقع في حفرة.. فليس عليه إلا أن يردمها بالصخر.. حتى يموت الغوييم.. واعلمن يا نساء اليهود.. لو خرجت إحداكن من حمّامها فرأت كلبًا أو حمارًا أو رأت واحدًا من الغوييم أو خنزيرًا أو بُرصًا فقد تنجست وعليها أن تستحم مرة أخرى.. ولو كان أحدكم أيها اليهود طبيب ا ماهرًا فلا يعالج الغوييم.. وإن كان طبيبًا فاشلًا فليعالج الغوييم حتى يكون في علاجه هلاك هذا الغوييم" 
_92_

"إنما يسوع الناصري ابن زنا.. وإنما حملت فيه أمه وهي حائض سفاحًا من العسكري بإنذار.. وإنما يسوع الناصري كذَّاب ومجنون ومضلل وساحر ومشعوذ ووثني ومخبول.. واعلموا أنما الراهبات المسيحيات مومسات.. وأن القساوسة الرهبان المسيحيين مخنثون.. وأن الكنائس إنما هي بيوت دعارة" 

"أيها اليهود.. لمّا يناكح الرجل البالغ طفلة صغيرة فلا شيء في ذلك.. ولو كان عمرها ثلاث سنوات.. الأمر كأنك تضع إصبعًا في عين.. وأن تناكح ولدًا صغيرًا فهذا لا يعتبر عملًا جنسيًّا فاحشًا تخشاه" 

لم أدرِ أن سُمّي في قلوب هؤلاء القوم قد وجد سكنًا أعجبه.. لقد تعدوا ما أردت لهم أن يكونوه.. لقد أفسدوا دينهم تمامًا.. سأعترف أن بني إسرائيل قد أبهروني.. لقد وعدهم ربهم في التوراة الأصلية بأن مُلكَهم سيعود لهم مرة أخرى بعد أن يُطردوا من بلادهم.. وأنه لما يعيد لهم مُلكهم سيُرسل لهم نبيًّا يُعرَف بالمسيح.. يحكم العالم بالعدل.. من عرش النبي "داوود".. ولما حقق الله لهم وعده وانهزمت بابل وأعادهم الله إلى أرضهم في فلسطين.. وجددوا المسجد الأقصى الذي بناه أبو البشر "آدم" وصلى فيه "إبراهيم" و"إسحق" و"يعقوب".. ثم جدده "سليمان".. والآن جددوه بأنفسهم وصار اسمه عندهم الهيكل.. هيكل سليمان.. ولما جددوه وصلت إثارتهم إلى ذروتها وانتظروا نزول المسيح الموعود على أحرِّ من الجمر.. والذي سيحكم العالم من عرش "داوود" في الهيكل. 

ولما خرج فيهم المسيح "عيسى" بن مريم.. رفضوه.. وقالوا إنه ابن زنا.. ولما رأوه يموت على الصليب أمام أعينهم .. ثاروا.. وقالوا إن هذا إلا محتال.. فقد مات ولم يحكم العالم من عرش "داوود" كما قالت النبوءة.. لم يدرِ أحدهم أن النبي "عيسى" الذي أُرسِلَ إليهم كان المسيح الحقيقي الذي قالت عنه نبوءة التوراة.. لم يدرِ أحدهم أنه لم يكن ابن زنا بل كان نبيًّا.. ولم يدرِ أحدهم أنه لم يمت على الصليب كما رأوا وإنما رفعه الله إليه.. وأنه سيعود في نهاية الزمان ويحقق نبوءة التوراة ويحكم العالم بالعدل من عرش "داوود" في فلسطين.. لم يدرِ أيٌّ منهم هذا.. لقد تملكهم التلمود حتى صاروا يتنفسونه. 
_93_

قالوا إن من يؤمن بالتوراة ولا يؤمن بالتلمود فليس مؤمنًا؛ فالتلمود هو أشد قدسية من التوراة.. لأنه يحمل الأسرار الشفهية التي هي أقوى من التوراة المكتوبة.. لم يدرِ أحدهم أنه لم تكن هناك أسرار.. إنما هي نفثات شيطان.. شيطان ثعبان زحف على بلادهم وأكل حتى شبع ثم واصل الزحف بحثًا عن قرية أخرى.. وقلوب أخرى.. وكنت أنا هذا الثعبان. 

وبعد سنوات من وفاة النبي "عيسى" بن مريم.. عدت أزحف بسمومي إلى أورشليم.. كان أتباع "عيسى" الحواريون يتولون نشر الإنجيل التي ينادي بالحب والمساواة بين الناس ويوافق التوراة اليهودية التي نزل بها "موسى" وأصبح "عيسى" يبشر بنبيٍّ يأتي في نهاية الزمان اسمه "محمد".. أصبح إنجيل "عيسى" يعارض كل سمومي التي نفثتها في تلمود اليهود.. لذا نفثت سمومًا جديدة.. فبمثل ما نفثت في قلوب أهل التوراة سمومًا نفثت في قلوب أهل الإنجيل سمومًا. فجأة دخل على الحواريين رجلٌ فزعوا لرؤيته فزعًا عظيمًا.. "شاول".. رجل يهودي قوي مكلَّف من قِبَل أكابر اليهود باعتقال الحواريين أحياء أو ميتين باعتبارهم كفار باليهودية التلمودية.. رجل مُرسَل من جمعية يهودية أُنشِئَت خصيصًا لقتل أتباع المسيح الحواريين ودفن المسيحية.. جمعية تدعى القوة الخفية.. جمعية يهودية يرعاها ملوك الرومان.. تحفز الحواريون لمَّا رأوا "شاول".. لكن أعينهم اتسعت عندما قال لهم اليهودي فجأة : 

- إني كنت لكم كارهًا.. عليكم مسلَّطًا.. لم تكن رؤسكم المقطوعة لتشفي غليلي فيكم.. لكن نورًا عظيمًا من السماء لاح لي أثناء سيري الحثيث إليكم.. نور خرَّ جسدي من عظمته على الأرض صعقا.. وأتاني هاتف بصوت بدا كأنه ملأ أرجاء الأرض يقول لي "لماذا تؤذي أتباعي يا شاول؟" 
_94_

"قم وادخل دمشقًا فهناك يقال لك عمَّا يجب أن تفعل".. لقد كان النور الذي أتاني هو "عيسى".. وإني أتيت لكم اليوم مؤمنًا ب "عيسى" ولست كافرًا.. جئتكم ناصرًا ولست قاتلًا. 

ظلَّ الحواريون على فزعتهم الأولى من "شاول".. فهو كان في الحقيقة أكثر من طالهم بالأذية.. لكن "برنابا" توسط له عندهم.. فبدأوا يستمعون له.. وبدأ السُّم الزعاف يملأ كأس النصرانية حتى فاض السم خارج الكأس المملوءة.. ثم سال السم من كثرته على الأرض.. وضيقت عينيَّ المشقوقتين في تشفٍّ.. واستمعت معهم لأحاديث "شاول" الذي أصبح اسمه القديس "بولس" وأصبح رسميًا قادرًا على تلقي الوحي من المسيح "عيسى" وقادرًا على التشريع.. 

كان الله واحدًا لا إله إلا هو في عقيدة المسيح "عيسى".. فأصبحوا ثلاثة آلهة في عقيدة "بولس". . الله و"عيسى" والروح القدس.. 

كان الله ليس كمثله شيء في عقيدة المسيح.. فأصبح الله في عقيدة "شاول" أبا والمسيح "عيسى" هو ابنه.. 

كانت هناك شريعة لله شرَّعها في التوراة اسمها الناموس.. شريعة تحرِّم الخمر ولحم الخنزير والميتة وتفرض الصلاة والصيام.. فأصبحت المحظورات كلها في عقيدة "بولس" مباحة.. ولا توجد واجبات.. لا يلزم المرء عند "بولس" صلاة أو صيامًا أو أي تكليف.. لايلزمه سوى الإيمان وحده.. الإيمان بالله.. وابن الله.. والروح القدس.. الثالوث الشهير. 

أنكر بعض الحواريين على "بولس" ما يقول بينما صدَّقه البعض الآخر.. لكن أغلبهم خالفوه في إلغائه شريعة التوراة.. وانقسمت المسيحية إلى طوائف عديدة بينها اختلاف شديد جدًّا لمدة ثلاثة قرون كاملة.. خلال هذه القرون كنت كلما أفتح الإنجيل لأقرأه أجد كلامًا عجيبًا.. 
_95_

"لوط" النبي كانت له ابنتان.. وكانت هاتان البنتان تسقيانه خمرًا وتتكشفان له وتغريانه حتى عاشرهما وأنجب منهما أولاد زنا. 

أحد أبناء "يعقوب" واسمه "روبن".. كان يمارس الجنس مع أمه على سطح المنزل. 

"يهوذا" أبو العرق اليهودي كان معجبًا بزوجة ابنه.. فحاصرها مرة على جانب الطريق وعاشرها وأنجب منها أولاد زنا. 

زنا محارم صريح في الإنجيل.. الحقيقة بالطبع أن هذا لم يكن الإنجيل وإنما كان ما كتبه هؤلاء بالسم الذي زرعته في قلوبهم وفي أقلامهم. 

جاء بعدها الإمبراطورعابد الآلهة الرومانية الوثني قسطنطين وجمع أكابر الطوائف المسيحية كلها في مجمع واحد.. مجمع نيقية.. وحتى يزيل الاختلاف فيما بينهم أجرى تصويتًا على ألوهية المسيح.. وصوتت كل طائفة بصوتها.. وانتهى الاجتماع بقرارٍ رسميّ باعتبار المسيح إلهًا مع الله وأنه ابن الله.. كان هذا كافيًا جدًّا.. إن مفعول السم قد أصاب قلوبًا كانت بالله مؤمنة موحِّدة منزَّهَة.. فأصبحت من بعد السم بالله مشركة.. بل وألغت شريعة الله بأكملها بحلالها وحرامها.. هل رأيتم سُمًّا بهذه الفاعلية من قبل؟ 

الرسول المسيح "عيسى" يصير فجأة ابنًا لله وإلهًا معه أيضًا وناموسه يصير لاغيًا.. وكل هذا يُبنى على شخص يهودي غريب لم يرَ المسيح في حياته.. رجل كان يلاحق الحواريين لقتلهم يأتي ويزعم بين ليلة وضحاها أنه رأى نورًا ينزل عليه من السماء.. وأن هذا النور هو "عيسى".. وأنه ليس نبيًا بل هو إله.. وهو ابن الله أيضًا.. وزِنا محارم في كتاب الله الإنجيل يرتكبه أنبياء الله وأولادهم.. وشخص روماني وثني يجعل الناس تصوِّت على ألوهية المسيح.. فيصوّتون عليها وكأنهم في انتخابات.. لم يكن العيب في عقول الرجال.. بل كان في قلوبهم. 
_96_

هكذا أُفسِدَت كل الشرائع التي أنزلها الله إلى الناس فسادًا تامًا كاملًا.. وعُدت إلى خريطة العالم.. عدت أزحف بحثًا عن قلوب أخرى.. وقد وجدت ضالتي بعد حوالي ثلاثمئة سنة من انعقاد مجمع نيقية.. فجأة سمعنا نحن الشياطين من نبأ السماء أمرًا عجبًا.. كل أحاديث الملائكة التي نسترق منها السمع كانت تتحدث عن حدث عظيم يوشك أن ينزل بأهل الأرض.. حدث سيقلب كل شيء رأسًا على عقب.. كنت أتوقع حدوث ذلك الحدث وأنتظره.. بل ننتظره جميعًا. . كانت الأرض تستعد لأن تشهد ولادته.. ولادة محمد. 

وإني قد رأيت من أمر هذا الرجل مالم أرَه في حياتي الممدودة كلها.. قبل حوالي شهرين من ولادته حدث أمر أسطوري لم أشهد مثله منذ قرون.. رأينا سماء مكة قد مُلْئْت بالطير حتى لم نعد ترى شيئًا من السماء.. كانت نوعًا من الطير لم يُرَ مثله من قبل.. طير بحجم النسر طويل العنق أقدامه حُمر.. سمَّاه العرب العنقاء.. مُلِئْت السماء بالعنقاء في مشهدٍ مهيبٍ وكل طير منها يحمل في منقاره حجرًا وفي أقدامه حجرًا.. وكانت أرض مكة ممتلئة بجيش أتى من اليمن على أفيال عظيمة يريدون هدم الكعبة.. كان مشهدًا أسطوريًّا رهيبًا وجنود الجيش ينظرون إلى السماء في رعبٍ وتوترت الأفيال.. ولم يدرون إلا والطير قد رمت عليهم الحجارة التي كانت تحملها.. حصيا صغيرة كانت.. لكنها مست أجساد القوم فهلك منهم من هلك من فوره.. ومن بقي منهم تساقط جلده وأعضاؤه عضوًا عضوًا حتى صار كالفرخ المذبوح.

هرعنا إلى السماء نبغي سماع الخبر كما اعتدنا أن نفعل منذ الأزل.. لكن شيئًا ما في السماوات لم يعد كما كان.. نظر بعضنا إلى بعض في استغرابٍ وواصلنا الصعود.. وفجأة رأينا أجرامًا من السماء تسقط على رؤوسنا.. ولينا أدبارنا هربًا لكن تلك الأجرام أصابتنا فأحرقتنا ونزلنا إلى الأرض محرًقة أجسادنا وقلوبنا.. يبدو أن وقت سطوة الشياطين قد انقضى زمانه.. وقد بدأ زمن إلهي جديد.. زمن "محمد". 
_97_

اهتزت أرض مكة فسقط الثلاثمئة وستون صنمًا المثبتون بالمسامير حول الكعبة على رؤوسهم. . وانطفأت نار فارس التي كانت تُعبد وهي النار التي كان يتناوب على إذكائها الكُهان منذ ألف عامٍ فلم تنطفىء إلا اليوم.. وهرعنا نحن الشياطين إلى بيت أمه لنشهد ولادته.. وهناك رأينا أمرًا لم نصدقه في الوهلة الأولى؛ مريم ابنة عمران.. وآسيا آمرة فرعون ونساء أخريات لم نرَ في مثل حسنهن والكل يقف حول آمنة أم "محمد" ليشهد ولادة "محمد".. ياللعجب كيف أتين إلى هنا.. ولمّا خرج انتظرنا نغزة الشيطان له ليبكي لكن الشيطان لم يأتِ.. وخرج الطفل محمد ولم يبكِ.. قال لنا الشيطان بعدها إنه لم يجرؤ على الاقتراب.. نظر بعضنا إلى بعض في حيرة.. إن لكل ما مضى من الزمان شأن.. ولزمان هذا الرجل شأن آخر.. اعتصرت أكثر أنواع سمومي فتكًا.. وزحفت بجسدي كله الذي طال مع الزمن طولًا عظيمًا ونزلت مكة.. وعرفت أنني سأبقى فيها طويلًا. 

مرت السنين وبُعِثَ "محمد" نبيًّا.. أبطل هذا الرجل كل سم زرعته في تاريخ الأرض.. حكى الحقيقة المجردة وحدها.. حكى أن "إبراهيم" و"موسى" و"عيسى" إنما كانوا يدعون كلهم إلى دينٍ واحدٍ.. وأن اليهود تركوا كتاب التوراة وأخذوا بكتاب من وحي خيالهم.. وأن النصارى حوَّلت المسيح من رسول الله إلى ابن وإله لكن الله إله واحد لم يلد ولم يولد.. وقال إن النصارى كتبوا في إنجيل عيسى كل ما طاب لهم من الكذب.. وأن عيسى لم يمت وإنما رفعه الله إليه.. وأنه عائد في نهاية الزمان ليحقق نبوءة التوراة ويحكم العالم كله بدِين "إبراهيم" و"موسى" و"محمد".. دين الله الذي ليس له ثانٍ.. وأعاد الناموس والشريعة التي أسقطها النصارى.. وبرأ "سليمان" من تهمة السحر التي كان اليهود يرمونه بها وقال إنه كان نبيًّا مُرسلًا امتلك الإنس والجن والطير والدواب بمعجزة من الله وليس بالسحر.. ورغم أن دولة "محمد" لم تكن تتجاوز الجزيرة العربية فقط.. إلا أنه صنع فيها رجالًا من ورائه إيمانهم قوي كالصخر ثابت كالجبال.. رجال على أتم استعداد لفتح العالم كله.. رجال لا يقدر عليهم شيطان.. بل إن الشياطين تهرب منهم.. لم تكن هناك طريقة لهزيمة هؤلاء إلا قتلهم المباشر.. وأولهم النبي "محمد". 
_98_

زحفت ناحية المدينة.. وتحديدًا إلى مساكن اليهود فيها.. ثم خرجت منها بعد أن أودعت في قلوبهم ما أودعت.. وفجأة أهدت واحدة من هؤلاء اليهود شاة مذبوحة مشوية إلى النبي "محمد" وأصحابه.. وسألَتْ هذه المرأة شيوخ اليهود عن أشد سم زعاف من سمومهم فتكًا.. فسموا لها واحدًا بعينه فأودعَته في الشاة.. وسألت عن أي جزء يحب النبي "محمد" أن يأكل فقيل لها الذراع.. فزادت في ذراع الشاة أضعاف ما وضعت في جسدها من السم.. وكان "محمد" يقبل الهدية فقبلها وجلس وأصحابه حول الشاة.. وتحفزت عيناي المشقوقة.. وأخذ النبي "محمد" الذراع وأكل منه أكلة.. ثم تبعه أحد أصحابه وأكل ثم استوقفهم النبي "محمد " فجأة وقال لهم: 

- كفوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة. 

ضيقت عيني في خبث شيطاني.. كنت أعلم أن تلك القضمة الواحدة التي أخذها من الشاة كانت كافية لقتله.. ولو بعد حين.. وبالفعل مرض النبي "محمد" مرضا شديدا بعد ثلاث سنوات من أكله للشاة.. وقال في مرضه : 

- مازلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة.. فهذا أوان انقطاع الأبهر مني. 

وهكذا أصبح الطريق ممهدًا أمامي لأبث مزيدًا من السموم.. حاولت بكل جهدي أن ألوّث أفكار دين الإسلام لكن "محمدا" لم يكن قد ترك شيئًا قابلًا للتسميم.. لم ينس شيئًا إلا وبينه.. وكانت قلوب أصحابه أشد صلابة من الماس.. والمشكلة الأكبر أن الله قد تعهَّد القرآن بالحفظ فلم يكن لي أي مخرج لتحريفه.. ولم يترك القرآن شيئًا إلا ذكره في مواضع عديدة بوضوح.. لكني لم أعتد أن يقف شيء أمام زحفي وسُمي.. ولذلك وجدت مخرجًا.. أو شبه مخرج. 
_99_

مات صاحبا الرسول "أبا بكر" و"عمر".. وتولى الخلافة بعدهما "عثمان ابن عفان" واتسعت دولة "محمد" لتكون من الصين إلى تونس.. ولو تُرِكت بضع سنين كانت ستغزو العالم كله.. فقد بنى "محمد" جيلًا كاملًا من الشخصيات اللامعة النادرة القوية المخلصة بطريقة لم تحدث في التاريخ من قبل ولن تحدث في التاريخ من بعد.. وإن أعظم حضارات العالم تفخر لو وجد فيها شخص واحد من هؤلاء.. فكيف بحضارة فيها أكثر من مئة ألف منهم.. لم يكن مناسبًا أن أعتمد على أحدٍ في بثِّ سمومي هذه المرة.. كان من المحتّم أن أنزل بنفسي إلى ساحة الأحداث.. وخلعت عني هيئة الثعبان واتخذت لنفسي هيئة بشرية.. ونزلت إلى المدينة المنورة.. المكان الذي ربَّى كل هؤلاء الرجال.. نزلت إليها على هيئة رجل أسود قادم من اليمن.. بل شيطان أسود.. شيطان يدعى "عبد الله".. "عبد الله بن سبأ". 

بدأت أخلط سما فكريًّا عزافًا لحقنه في قلوب هؤلاء.. نظرت إلى عقيدتهم وكتّابهم ورسولهم فلم أجد ثغرة أنفذ منها.. لكنني أمعنت النظر وأمعنت حتى وجدتها.. وجدت الثغرة التي سأحقن فيها سمومي كلها.. فبعد وفاة رسولهم اجتمع كبار صحابته في سقيفة بني ساعدة ليختاروا واحدًا منهم خليفة للمسلمين.. لكنهم أغفلوا واحدًا من أهم الصحابة.. رجل شديد الأهمية لم يكن في هذه السقيفة معهم بل كان مشغولًا يغسل جسد النبي "محمد" تجهيزًا لدفنه.. كان هذا هو "علي".. "علي بن أبي طالب".. ابن عم الرسول وصهره. 

المشكلة أنه كان من المستحيل التأثير على عقائد هؤلاء الرجال أبدًا.. بل إنني خِفت على عقائدي كشيطان أن تتأثر لو اقتربت منهم.. لذا كان يجب أن يكون السم سياسيًا هذه المرة.. سياسيًا بحتًا.. إن "علي بن أبي طالب" من آل بيت النبي وسماه الرسول وليّ المؤمنين فكيف يجتمعون بدونه في السقيفة ويختارون خليفة لهم بدون حتى أن يأخذوا رأيه.. ضيقت عيني المشقوقتين في رضا شيطاني ومضيت في طريقي. 
_100_

لكنني خرجت من المدينة مدحورًا مذمومًا.. لقد أجمع أهل المدينة كلهم على رأي السقيفة.. وبايع الكل بلا أدنى تردد الخليفة "أبو بكر".. حتى "علي" نفسه بايعه ببساطة.. هؤلاء يعرفون كلام رسولهم جيدًا.. فقد رتب أكثر من مرة أصحابه حسب الفضل "أبو بكر" ف "عمر" ف "عثمان" ثم "علي".. ومزاعمي أن هؤلاء الثلاثة قد سرقوا الخلافة من "علي" ثلاث مرات ضاعت في الهواء.. فكيف يسرقون الخلافة ولم يخرج أحدهم منها حتى بثوبٍ جديدٍ بل ماتوا جميعًا مديونين.. قدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله. 

لكن هذا السم الذي حضرته ولو لم يكن قادرًا على التأثير في هؤلاء فهو قادر على التأثير في ضعاف أو حديثي الإسلام.. وبهذا توجهت إلى الشام.. وحاولت نشر فكري هناك لكنني خرجت منها مدحورًا مرة أخرى.. فكان أمير الشام "معاوية بن أبي سفيان" يدير الشام بطريقة يستحيل معها أن تشتعل أي فتنة.. فخرجت من الشام وتوجهت إلى العراق.. وهناك فقط وجدت ضالتي. 

في البداية نشرت مطاعن عديدة في كل أمراء البلاد.. فإذا تقبَّلها الناس سيكون سهلًا عليهم أن يتقبّلوا مطاعن في الخليفة "عثمان بن عفان".. وبالفعل تقبَّل كثيرٌ من الناس كلامي ومنهم كبار قواد الجيوش مثل "الأشتر النخاعي".. تقبَّلوا مطاعني في الأمراء وتقبَّلوا مطاعني في "عثمان".. وظللت أطعن وأطعن حتى سار معي ثلاثة آلاف رجل ودخلنا المدينة وواجهنا الخليفة "عثمان" بمطاعننا وطلبنا منه أن يخلع نفسه عن الخلافة ويولي "علي". . لكن حتى هذه كان الرسول قد أخبره شخصيًّا بها.. فقد قال له إن هناك منافقين سيأتونك ويطلبونك أن تخلع قميصًا قمصكه الله فلا تخلعه.. وبهذا رفض "عثمان" أن يخلع نفسه من الخلافة.. وبهذا حاصرناه ومنعنا عنه الماء.. حتى قتلناه. 

وبهذا بايع الناس "علي بن أبي طالب" خليفة.. لكن اختلف أكابر الصحابة؛ فريقٌ رأى أن يقتص الخليفة "علي" من قتلة "عثمان" أولًا وإلا لن يبايعوه.. على رأس هؤلاء "عائشة" زوجة الرسول و"طلحة بن عبيد الله" و" الزبير بن العوام".. 
_101_

الفريق الآخر وهو فريق الخليفة "علي" رأى أن يؤجَّل القصاص.. لسبب سياسي بحت هو أن القتلة من أكابر قبائل العراق وشرق المملكة الإسلامية وهم حديثي الإسلام.. فلو تم القصاص الفوري منهم ستنشق نصف المملكة الإسلامية عن الخلافة.. وقد استخدمتُ رأي "علي" السياسي هذا شر استخدام.. فأشعت في معارضيه فكرة أن "علي بن أبي طالب" كاره ل "عثمان بن عفان" ولهذا هو يُقرّ قتلته على ما فعلوه.. وإنما يتخذ حجته السياسية هذه ذريعة ليساعد القتلة على الهرب.. ويبدو أنني بدأت فعلًا في إشعال النار. 

قرر "طلحة" و"الزبير" أن يسافروا إلى العراق للقصاص من القتلة بأنفسهم ومعهم خمسة آلاف رجل.. لكنهم أخذوا معهم "عائشة" زوجة الرسول لترقيق قلوب القوم هناك.. ولما وصلوا للعراق طالبوا القبائل بتسليم قتلة "عثمان" للقصاص لكن القبائل رفضت رفضًا شديدًا كما توقع "علي".. وبدأت الحرب.. وقتل جيش "طلحة" من القبائل الكثير.. وقتل القليل من قتلة "عثمان".. أيضًا كما توقع "علي". 

هنا انطلق "علي" بنفسه إلى العراق لحل هذا النزاع وعاتب "طلحة" والزبير" و''عائشة" على عدم تصديقهم لنظرته السياسية التي توقعها.. فهدأوا جميعًا وبايعوا "عليا" بالخلافة واتفقوا على رأيه.. كان يبدو أن "علي" نجح في إخماد النار التي أشعلتها.. لكن هيهات.. ففي الليل بعد أن نام الجميع.. تسللت ورجال معي إلى مخيمات رجال "طلحة" وقتلنا منهم نفرًا يسيرًا.. ثم ذهبنا لمخيمات رجال"علي" وقتلنا منهم نفرًا يسيرًا.. ونادينا في كلا الطرفين بينما أغار علينا الطرف الآخر الحاقد.. وهكذا قام الرجال والتقت سيوفهم.. ونزل "علي" ينادي الجميع أن يوقفوا القتال.. ونزلت "عائشة"على جملها ونادت في الجميع أن يوقفوا القتال حتى أصابت ناقتها سهام كثيرة لم يدرِ أحد من أين تأتي.. فأحاط "علي" بجمل "عائشة" بجسده في مشهدٍ بطولي حقيقي ومهَّد لها الطريق لتخرج من الساحة.. ثم أمر نساءً من آل بيته لمرافقتها إلى المدينة.. قُتِل "طلحة" بسهم مجهول.. فلما رآه "علي" بكى.. 
_102_

وقُتِل "الزبير" بطعنة غادرة أثناء صلاة الظهر.. وأتى من يُبشر "علي" بقتل "الزبير" فقال له "علي" أن يبشر قاتل "الزبير" أنه في النار.. ودفنه "علي" بنفسه وقال : 

- إني لأرجو أن أكون أنا و"طلحة" و"الزبير" و"عثمان" ممن قال الله فيهم (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) 

وبما أن العراق كانت مكانًا غير مستقر فقد فضَّل "علي" أن يحكم المسلمين من الكوفة.. وبهذا كاد "علي بن أبي طالب" أن يطفىء النار مرة أخرى.. 

ولكن هيهات.. لازلت هنا.. لازال الأسود بن السوداء "بن سبأ" هنا.. كانت هناك العديد من الثغرات قد تكونت الآن.. ف "علي" أثناء تحقيق سياسته بتأليف قلوب قبائل العراق اضطر لإبقاء من كان منهم قائدًا للجيش كما هو.. ومن هؤلاء كان "الأشتر النخاعي" أحد رموز التمرد على "عثمان" وغيره الكثير.. وصرخت بين الناس أن انظروا كيف ترك "علي بن أبي طالب" مدينة رسول الله وذهب ليقيم الخلافة من الكوفة مهد قتلة "عثمان بن عفان".. انظروا كيف كان جيشه يقاتل جيش "عائشة" و"طلحة" و"الزبير" ويقتل منه من يقتل.. ويرفض أن يقاتل من قتلوا "عثمان بن عفان".. ألا يدل ذلك على حقده على "عثمان بن عفان"؟ ولكن صرخاتي تلك لم تؤثر سوى في حديثي الإسلام.. فالمسلمون يعرفون جيدًا من هو "علي بن أبي طالب".. ابن عم النبي.. وزوج ابنته "فاطمة".. ومستشار الثلاثة خلفاء الذين كانوا قبله.. قال فيه النبي " إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وأبى أن يجعل ذريتي إلا من صلب علي".. و"من كنت مولاه فعلي مولاه".. فلم تجد صرخاتي صداها. 

لكن ما ساعدني بشدة كان أن هناك بلدًا واحدًا فقط معارضًا بأكمله لموقف "علي بن أبي طالب" السياسي منذ البداية ورافضًا أن يبايعه إلا بعد أن يقتص من قتلة "عثمان بن عفان".. بلد واحد فقط لكنه شديد الأهمية.. الشام.. بأميره "معاوية بن أبي سفيان".. ونفر من الصحابة الكبار أبرزهم "عمرو بن العاص".. 
_103_

لما أتيت الشام قبل مقتل "عثمان" لم أتمكن من فعل شيء.. أما الآن ومع تبنّيهم هذا الموقف المعارض.. صار إشعال النار عندهم أسهل بكثير. 

فذهبت بصرخاتي إلى أنصار "علي بن أبي طالب" وقلت.. إن "معاوية بن أبي سفيان" يرفض مبايعة "علي بن أبي طالب" لأن "علي" قتل خاله وقتل أخوه.. كما أنه كبير قبيلة بني أمية التي منها و"عثمان بن عفان".. فهو ولي دم "عثمان".. وهو يقدِّم ولاءه للدم على ولائه للخليفة.. لكن صرخاتي لم تجد لها صدى كبيرًا في تلك الأيام.. فالناس كانت تعرف من هو "معاوية بن أبي سفيان".. تعرف أنه من القلة الذين ائتمنهم النبي "محمد" على تدوين القرآن.. وعنه يحفظون أحاديث كثيرة جدًا.. ودعا له "محمد" فقال "اللهم اجعله هاديًا مهديًا".. والمسلمون يتعاملون مع دعوات النبي معاملة الدستور.. بل إن أخت معاوية هي زوجة النبي "محمد".. ولذا يلقبونه بخال المؤمنين.. وهم يثقون به تمامًا لأنه ورغم أن "عمر بن الخطاب" أثناء خلافته عزل الكثير من الولاة مثل "خالد بن الوليد" و"أبو موسى الأشعري" و"سعد بن أبي وقاص" و"عمار بن ياسر" إلا أنه لم يعزل "معاوية بن أبي سفيان" أبدا.. وذلك لشدة حنكته في الإمارة وعدله. 

لكن طال إصرار "معاوية" على رفض مبايعة "علي".. ونصح الصحابة الخليفة "علي" بأن يخرج ليعيد الشام إلى حُكمه.. فخروجها عن الخلافة يجعل غيرها يستمرىء الخروج على الدولة.. وبهذا خرج "علي" بجيش قوامه مئة وعشرون ألف رجل إلى الشام ليعيدها.. وجهز له "معاوية" جيشًا قوامه تسعون ألف رجل.. كنت في غاية السعادة.. فالصحابة.. أصحاب القلوب الذهبية على وشك التقاتل مع بعضهم البعض.. وتقاتلهم هذا يعني سقوط دولتهم.. ويعني أن الثعبان سيجد ضحية جديدة. 

التحم الجيشان وسقط قتلى ما يقارب الأربيعن ألفًا.. لكن كان هناك شيء عجيب في هؤلاء القوم.. توقفت قليلًا لمحاولة استيعابه.. هؤلاء يتقاتلون بالنهار.. وفي الليل يتزاورون.. القرآن يدوي في ذلك الجيش.. ويدوي في الجيش الآخر.. 
_104_

كل طرف مؤمن أنه يقاتل لأجل الدين.. الطرف الأول يقاتل لأجل تفعيل حد القصاص لأن في تعطيله مخالفة لشريعة الله.. والطرف الثاني يقاتل لأجل استقرار الدولة الإسلامية.. يتقاتلون ولا يكره طرف منهما الطرف الآخر.. بالعكس يعظمون بعضهم البعض.. وفي المعركة يظل الرجلان يتلاحمان بلا قتل.. فكل القتل الذي حدث في المعركة كان بفعل أتباعي.. قتلة "عثمان" الذين كانوا في جيش "علي" لكن لما كان صحابيان يتقابلان فإن سيفيهما يصطكان ببعضهما بلا قتل وقلباهما سواء.. وقفت بين هؤلاء وهؤلاء.. ليس لمثل هؤلاء وضعت سُمي.. لقد أشعلت ما ظننته نارًا في القلوب.. فأصبحت النار بردًا وسلامًا عليهم كأنها لم تكن.. أنا أضيع وقتي هنا.. هؤلاء سيصطلحون بعد حين ويعودون أشد قوة مما كانوا. 

وبالفعل اصطلح الرجال.. وعملوا هدنة لسنة.. خلال هذه السنة زحفت على ضعاف النفوس والإيمان.. فلست أقدر إلا عليهم.. جعلت نفرًا كثيرًا منهم يعتبرون كل من شارك في المعركة بين الصحابة كافرًا.. وجعلتهم يحاولون الانقلاب على الخليفة "علي".. الذي انشغل تمامًا بمحاربتهم والقضاء عليهم حتى قتله أحدهم.. وهو"عبد الرحمن بن ملجم".. الذي ظنَّ بكل السم الزعاف الذي أودعته في قلبه أنه قتل "عليا" وأنه سيدخل الجنة.. وقد قال الرسول إن قاتل "علي" هو أشقى الآخِرين.. وقال أيضًا أن الطائفة التي ستقتل الخوارج هي أقرب الطائفتين إلى الحق وهي هنا طائفة "علي بن أبي طالب".. أما الطائفة التي ستقتل "عمار بن ياسر" أثناء الفتنة فهي الفئة الباغية وهي هنا طائفة "معاوية بن أبي سفيان".. العجيب أن النبي "محمد" كان يقول أحاديثَ عن أحداث حدثت بحذافيرها بعد موته.. هذه الأمة عجيبة.. حقًا لم يرَ التاريخ مثل هذه الأمة على الإطلاق. 
_105_

تولى الخلافة بعد موت "علي بن أبي طالب" ابنه "الحسن".. وقد عمل عملًا بسيطًا أصلح به كل شيء.. بعد ستة أشهر على خلافته ذهب إلى "معاوية" وتنازل له عن الخلافة.. وبهذا اصطلح الكل ولم يعد في قلب أحد على أحد مأخذ.. هذا الرجل غريب.. كان منذ البداية ينصح أباه "علي" بكل النصائح التي لو كان اتبعها كانت المشكلة ستنتهي.. فنصحه ألا يخرج وراء "عائشة" إلى العراق.. وألا يخرج لقتال "معاوية".. والآن تنازل عن الخلافة.. وقد قال عنه جده النبي إن الله سيصلح به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين.. ومرة أخرى.. تحققت نبوءة النبي كما قالها تمامًا.. وانتهت الفتنة تمامًا وخمدت النار.. وزالت السموم.. ونظرت إلى نفسي.. لقد فشلت مع هؤلاء.. حقًّا لقد فشلت.. من أي شيء صُنعت قلوبهم بالضبط؟.. من أي شيء صُنعت؟ 

تمَّت 


***


_106_

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.