أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 يوليو 2018

الرئيسية رواية انتيخريستوس (5)

رواية انتيخريستوس (5)



ياحكماء صهيون
1900 بعد الميلاد


اليوم الأول 

ياحكماء صهيون.. يا صفوة الأرض.. يا ملوك الذهب.. لقد كان حقا على الله أن يختاركم شعبا.. لقد اصطفاكم من بين شعوب العالم البهيمية الفاسدة (الغوييم) لتؤسسوا مملكته العظيمة على الأرض.. وها نحن نلتقي اليوم في هذا المحفل.. وغدًا وبعد غد.. وستكون هناك اجتماعات أخرى فيما سيأتي من السنين.. نحن هنا اليوم لنتحدث في أمر خطتنا الاستراتيجية العظيمة الكاملة التي بدأها أسلافنا.. وسلمها أسلافنا لأسلافنا.. ثم سلمها أسلافنا إلينا.. وكان حقًّا علينا أن نسلمها نحن لمن سيأتي بعدنا.. ولو انحرفنا عنها حطمنا عمل قرون طويلة.. فالحذر كل الحذر يا بني إسرائيل. 

أنتم تعلمون جيدًا أصول الخطة القديمة.. تعلمون كل الأعمال الجليلة التي قدمها لشعبنا الملاك الساقط "بافوميت".. والخدمات العظيمة التي أداها في خريطة العالم التاريخية الملاك الساقط الجليل "سيربنت".. لا داعي للخوض في تفاصيل تاريخية نحفظها جميعًا عن ظهر قلب.. يا حكماء صهيون.. لقد حان دورنا في هذه الحكاية العظيمة.. لقد آن الأوان الذي ننفض فيه عن أكتافنا كل ما علق بها ونتحرك.. ونحرك العالم كله إلى الناحية التي نريد. 

إن أعظم طريقة يمكنك أن تحطم بها مبادىء أي جيل.. سواء الدينية أو الاجتماعية.. ليس بنقض هذه المبادىء أو تغييرها.. ولكن بتحريفها عن مواضعها ووضع تفسيرات لها لم يقصدها واضعوها.. ولذلك حالفنا الحظ ببركة الأفعى "سيربنت" بتغيير مباديء المسيحية لتصير شيئًا آخر تمامًا غير ما أُريدَ لها أن تكون.. وكذلك الإسلام الشيعي المشوه الذي تمكنا من السير به إلى طريق آخر تمامًا يعارض إسلام محمد.. بل ويحاربه.. بل ويستعين على حربه بأعدائه.. وهذه هي العبقرية اليهودية بعينها. 

قد نعرض في هذه الخطة بعض الأمور الغير أخلاقية والتي نحن مأمورون بالقيام بها.. لكن تذكروا دائمًا.. إن هذه الأمور كلها تصير أخلاقية تمامًا بالنسبة لشعب مثل شعبنا.. شعب مضطهد مُهاجَم داخليًا وخارجيًا.. واعلموا أنه في هذا الزمن الذي أتى على بني الإنسان .. الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الخير. 
_207_

إن قوتنا أعظم من أي قوة أخرى.. لأنها ستظل مستورة حتى اللحظة التي تبلغ فيها مبلغًا لا تستطيع معه أن تسعها أي قوة عظمى ولا أي خطة ماكرة.. حقًّا القوة الخفية هي أكبر قوة.. فمن ذا الذي يقدر أن يخلع قوة خفية عن عرشها.. نعم يا بني صهيون.. فبرغم أننا شعب مشتت.. إلا أن تشتتنا هذا هو سر قوتنا.. لأنه سمح لنا أن نتسلل إلى كيانات كل شعوب العالم وونصعد فيها إلى أشد مراكزها حساسية.. وبهذا صار أمر أقوى شعوب العالم بين إصبعين من أصابعنا نوجههم أينما نشاء.. ولقد حانت لحظة التوجيه يابني إسرائيل وانتهت مرحلة التسلل. 

لقد تمكّنا من إشعال نار الثورة الفرنسية.. نحن من نادى أول مرة وقال "حرية.. إخاء.. مساواة".. كلمات كلما رددها الناس كلما فشلوا أكثر وتقيدت حرياتهم أكثر.. إن هناك كلمة نتنة تقال دائمًا.. ديمقراطية.. لا شيء يدعى ديمقراطية أو تحرُّرًا وما إلى ذلك.. كل هذا وهم.. نحن الوحيدين الذين نعرف أنه وهم.. ونحن الوحيدين الذين نعرف متى نسخر هذا الوهم ليكون طُعمًا لجذب الناس إلى صفنا.. سنشرح لاحقًا حقيقة هذا الوهم شرحًا وافيًا.. لكن مبدئيًّا.. اعلموا أن كل الناس غوغاء مفترسون عميان يحتاجون إلى القوة لتكبح جماحهم.. وهذه القوة تأتي في الديكتاتورية الاستبدادية وحدها.. أو الديمقراطية متنكرة في هيئة شيء يدعى القانون.. والكل يخضع له. 

الديمقراطية تعني الفوضى.. كيف يمكن أن تثق في أحكام الغوغاء الذين يجعجعون بمناقشات ومجادلات.. مع أنه يمكن مناقضة مثل هذه المناقشات بمجادلات ومناقشات أخرى خبيثة لكنها مقنّعة بقناع عالٍ من الإغراء.. والجدال مفيد لأنه يحول الأمور من سعي لمعرفة الحق إلى سعي للجدال نفسه.. إن الجمهور الغر الغبي ينغمس دائمًا في هذه المناقشات بطريقة تعوق كل إمكان للاتفاق ولو على المناقشات الصحيحة.. 
_208_

فإن اتفقوا على رأي أغلبية يكون رأيًا مشبعًا بالجهل بالأسرار السياسية.. وهذا ما يبذر بذور الفوضى في الحكومة عندما تقول إنها ديمقراطية.. ولهذا فقد قدمناها إلى حكومات الغوييم البهائم على أنها أرقى أنواع الفكر الإنساني. 

ولو تفكر أصحاب الديمقراطية والجمهورية قليلًا لوجدوا أن الشعوب الآن تتحمل من وزرائها ورؤسائها إساءات لو حدثت في الماضي كانوا سيقتلون من أجلها عشرين ملكًا.. لكنهم لا يقرأون التاريخ ولا يحبونه. 

الاستبداد وحده هو الذي يقيم الحضارة.. فهل يمكن لخطة مجزأة عدد أجزائها بعدد العقول التي صنعتها أن تقيم حضارة؟ محال طبعًا.. فالغالب أنها تكون حضارة هشة ضائعة القيمة.. فالجمهور بطبعه بربري.. وفور أن تعطيهم شيئًا من الحرية فهم يمسخونها إلى فوضى.. القوي يحكم دائمًا والضعيف يخضع دائمًا.. لهذا ينجح الأب في تربية ابنه الصغير.. ويفشل في تربية ابنه الكبير.. ولذلك في حكومتنا يجب أن نكون صارمين جدًّا في كبح كل تمرد.. أما الكلمات الجوفاء والتربيت على الرؤوس وهذه الترهات كلها يجب أن تكون من خصال حكومات الغوييم. 

الحقيقة التي يفرضها علينا هذا الزمان هي الاستبداد.. قل لي ما نوع الحكومة التي يمكنها أن تحكم مجتمعًا تفشَّت فيه الرشوة والفساد حتى ذبلت أوراقه وتساقطت.. قد تقول لي إن حكومة الاستبداد هذه قد ولَّى زمانها ولم تعد تصلح للعصر الحديث.. لكنني سأبرهن لك أن العكس هو الصحيح.. لما كان الناس ينظرون إلى ملوكهم نظرة من معهم إرادة من إرادة الله.. كانوا يخضعون في هدوء لاستبداد ملوكهم.. لكن لما أوحينا لهم بفكرة الحقوق والمساواة وما إلى ذلك بدأوا في النظر إلى الملوك نظرتهم إلى أبناء الفناء العاديين وسقطت عنهم المسحة المقدسة.. وبهذا لن يقبلوا منهم استبدادًا ولا حتى نصف استبداد. 
_209_

إن السياسية لا تتفق مع الأخلاق في شيء.. والحاكم الملتزم بالأخلاق ليس بسياسيٍّ بارعٍ.. وهو لذلك غير راسخ على عرشه.. لابد لطالب الحكم من الالتجاء للرياء والنفاق والمكر.. الإخلاص والنبل والأمانة تصير رذائل في السياسة.. وهي تساهم في زعزعة العرش بأكثر مما يساهم ألد الخصام. 

وإني أود أن أحدثكم في أمرٍ هام.. كيف يمكن أن تستعبد دولة كبيرة مثل روسيا.. في البداية قم بتوسيع الفجوة مابين الحكومة الغبية والشعب الغوغاء العميان.. وزد من كراهية كل طرف للطرف الآخر.. فكلما زدت من كراهية الشعب في نفوس حكومته الغبية .. ستقوم بإساءة استغلال قوتها الغاشمة وتكسر قوانين الديمقراطية العفنة.. وكلما زدت من كراهية الحكومة في نفوس شعبها سيبدأ في التمرد على القوانين العفنة التي وضعتها حكومته ثم كسرتها. وإن أي دولة تنتكس فيها هيبة القانون وتصير شخصية الحاكم فيها عقيمة بتراء.. هنا يمكننك أن تتخذ خطًّا هجوميًّا وتقوم بثورة أو انقلاب تحطم فيه كل القواعد والنظم القائمة.. وتمسك بالقوانين فتلقيها في أقرب قمامة وتعيد تنظيم الهيئات جميعًا.. وبذلك تصير ديكتاتورًا على حكومة تخلصت بمحض إرادتها عن قوتها وأنعمت بها عليك. 

وعندما تقع الدولة بعد ذلك في قبضتنا.. ولأننا نحن اليهود مالكوا الذهب الوحيدون في العالم.. سنقدم لهذه الدولة عودًا تتعلق به.. وهذا العود هو المال.. فإن تعلقت به أصبحت عبدة لنا.. وإن لم تتعلق به غرقت إلى الأبد.. إن الذهب هو المحرك الأول لعجلة أي دولة.. وطالما نمتلكه ونحتكره فيمكننا شل حركة أي دولة في أي وقت نريد. 

نحن اليهود وحدنا من نملك الاقتصاد.. علم الاقتصاد هو مملكتنا.. إننا محاطون بجيش كامل من الاقتصاديين.. وأغلبهم حاضرين معنا اليوم.. أنتم أقوى سلاح من أسلحتنا سواء كنتم رؤساء بنوك أو أصحاب صناعات أو أصحاب ملايين. 
_210_

نحن إذا صارت دولة من الدول في قبضتنا فسنعهد بالمناصب الحكومية الرئاسية أو الوزارية فيها إلى القوم الذين ساءت صحائفهم ولديهم في تاريخهم نقاط سوداء يخفونها دائمًا.. فإذا عصوا أمرنا توقعوا المحاكمة أو السجن.. وبهذا فسيدافعون عن مصالحنا حتى النفَس الأخير الذي تنفث به صدورهم.. وأحيانًا لابد أن تظهر الحكومة بمظهر المعارضة لنا.. لكنها في حقيقة أفعالها موالية لنا ولمصلحتنا قلبًا وقالبًا. 

ولكننا نخشى أكثر ما نخشى في هذه الدول أن تتحالف قوة الحكام مع قوة الرعاع العميان.. لكننا أخذنا كل احتياطاتنا لضمان عدم وقوع هذا.. فقد أقمنا بينهما سدًّا قوامه الرعب الذي تحسه كل واحدة منهما من الأخرى.. وحتى نضمن بقاء هذا السد لابد أن نكون متصلين بكل الطوائف.. ليس بصورة مباشرة طبعًا ولكن عبر أكثر عملائنا إخلاصًا.. وهؤلاء هم من يخاطبون الرعاع ويوجهونهم أينما نراه نحن مناسبًا. 

ولتسهيل تنفيذ كل هذه المخططات لابد أن يكون لنا وكلاء دوليين لديهم ملايين العيون ووسائل غير محدودة على الإطلاق.. وهؤلاء يوجهون الحكومات.. أما الشعب فلا يوجد أسهل من توجيهه.. وتوجيهه يكون بكلمة واحدة سأفصل في أمرها لاحقا.. الصحافة.. وهي السلاح الذي لا يدري الغوييم كيف يستخدمونه.. ونحن سنلعب به دائما من وراء الستار.. وهو الشيء الذي يوجه الناس للاتجاه الذي نريده تماما. 

من اللازم أن نضع في كل المجتمعات هيئات نصبغها بصبغة تحررية لها خطباء مفوهون يسحرون العامة بالكلام البليغ.. وهو مجرد كلام بدون أفعال حقيقية.. لكنه يسحرهم ويصدقونه في يأسٍ أملًا في تغيير الحال.. في نفس الوقت سنزيد المرتبات ونزيد الأسعار في ذات الوقت.. فنرهق أصحاب الأعمال برفع المرتبات.. ونرهق العمال برفع الأسعار فلا يستفيد أحدٌ شيئًا إلا مزيدًا من الإرهاق. 
_211_

بالنسبة للحكومات فسنختار لها رؤساء إداريين ووزراء ممن لهم ميول العبيد.. ليخضعوا لسلطة مستشارينا الحكماء الذين تدربوا على السياسة منذ كانوا أطفالًا. 

سنبدأ بروسيا ثم سندور مع دوران الأفعى "سيربنت" في أوروبا حتى تصير أوروبا مغلولة بأغلال لا تنكسر.. ثم ستكون مرحلة في غاية الحساسية والخطورة.. الإمبراطورية العثمانية الكبيرة.. سينزل إليها "سيربنت" وسننزل معه.. ولن نهدأ حتى نهلكها هلاكًا لا قيام بعده.. ثم سيختتم "سيربنت" دورته ليهبط في أورشليم.. وسنهبط معه.. وهناك ستكون دولتنا.. هناك سينتهي شتاتنا في الأرض. 

لما نستقر في دولتنا.. سنكون قوة دولية عظيمة إذا هاجمتها إحدى الحكومات قامت الأخرى بنصرتها.. عندها سيمكننا أن نبدأ في إعداد العالم كله لاستقبال الملك "هاماشياح" الذي نعده لحكم العالم أجمع. 

اليوم الثاني 

يا عظماء صهيون وصفوة صفوتها.. لقد وصلت قوتنا اليوم إلى حدِّ أن أي معاهدة تتم في العالم الحالي لابد أن تكون لنا يدٌ خفية فيها.. ولقد وصلت قوتنا إلى حد أننا نحن الآن من نقرر العقوبات.. نعدم من نشاء ونعفو عمن نشاء.. ولم نصل لهذا إلا لأن الله أعطانا عبقرية لم يعطها لأي شعب من شعوب الأرض. 

اليوم هو اليوم الثاني وغدًا سيكون اليوم الأخير لهذا الاجتماع التاريخي.. ويجب أن يعرف الجميع أنه وبدون أن أنوّه.. لابد أن يظل كل ما يدور في هذا الاجتماع طي الكتمان التام. رغم أن الغوييم بطبيعتهم ذوو عقول بهيمية محضة لا يمكنهم ملاحظة أي شيء فضلًا عن التكهن أو تحليل أي شيء.. على النقيض منا بالضبع.. فهذا الاختلاف في العقلية بيننا وبينهم يرينا لماذا اختارنا الله وأعطانا طبيعة ممتازة فوق البشرية.. 
_212_

ولو ظهرت هذه العبقرية لغير اليهود فهي عارضة مصادفة لا أصلية.. ويجب علينا حربها لأنها خطرٌ كبيرٌ علينا.. بغض النظر عن هذا سأبدأ الحديث اليوم بشرح النظام الجمهوري والذي سنبدله مكان النظام الملكي في كل الدول التي سيمر عليها الأفعى "سيربنت". 

الملك في النظام الملكي سيُستبدل بشيءٍ هزلي يدعى الرئيس.. وسنختار لهذا المنصب رجلًا لديه فضيحة من الفضائح السرية.. ونحن نعرفها جيدًا.. أخلاقية كانت أو جنسية أو رشوة.. بحيث يكون طوال فترة حُكمه أسيرًا للخوف من التشهير به.. وسنضع تحت يده شيئًا هزليًا ما يدعى مجلس الشعب.. وهو مجموعة من الناس ينتخبهم الشعب للتعبير عنه.. وهذا المجلس هو الذي سينتخب الرئيس ويحميه.. ولكننا سنسحب من هذا المجلس سلطة تعديل القوانين.. فيكون للرئيس السلطة الكاملة.. فالرئيس في نظامنا هذا هو رئيس الجيش أيضا.. فمن حقه إعلان الأحكام العرفية لحماية الدستور الجمهوري الجديد كما سيدعي.. ولن يكون من حق مجلس الشعب هذا أن يعرف أو حتى يسأل عن القصد من مخططات الدولة.. وسلطة تعيين رئيس مجلس الشعب الهزلي هذا تكون في يد رئيس الدولة فقط.. باختصار هو مجرد مجلس من ورق لا فائدة حقيقية منه. 

وللرئيس حق حل المجلس في أي وقت وعمل مجلس جديد.. ومن حق الرئيس أن يخالف أي قوانين موجودة ويضع قوانين وقتية في أي وقت.. وحجته في ذلك ستكون مصلحة البلاد.. وبهذا تكون الحكومات ديكتاتورية في الحقيقة ديمقراطية في الظاهر.. وممثلوا هذه الحكومات ما هم إلا أستار أو آلات لتنفيذ ما تريده الإدارة المتمثلة في الرئيس وأعوانه من الوزراء.. وهؤلاء ماهم إلا ستار لتمرير ما نود منهم أن يمرروه. 

ولأننا سنقيم الاضطرابات الدائمة بين الشعوب والحكام وسنضيق الخناق الاقتصادي على جميع الدول.. ستنوء الشعوب بحكّامها يومًا ما وينادون بعزل أولئك الحكام جميعًا وتعيين حاكم عالمي واحد يستطيع أن يوحِّدهم ويمحق كل أسباب الخلاف. 
_213_

نحن الوحيدين في هذا العالم الذين نملك أسرار الماسونية ونَقودها.. فأنّى للغوييم أن يفهموا مقاصد وأهداف الماسونية وهم غوييم خنازير لا عقل لهم.. وعلينا أن نضاعف خلايا الماسونية ومحافلها في جميع بلدان العالم.. وسنجذب إليها كل من يُعرف عنه أنه ذو روح عامة شهيرة.. وكل هذه الخلايا ستكون تحت قيادة واحدة مؤلفة من حكمائنا.. ولابد أن نضم إلى هذه الخلايا كل الوكلاء في البوليس السري في أي دولة لأنهم قادرون على إسدال الستار على مشروعاتنا وأن يعاقبوا من يكثر ضجيجهم ويسببون لنا الصداع.. وسنجد أن معظم الداخلين لهذه الخلايا من المغامرين الراغبين في الثراء السريع ونحن نمتلكه وحدنا.. وسنستغل هؤلاء لدفع عجلة هذه الخلايا إلى أي اتجاه نشاء. 

وبالنسبة للصحافة.. فيجب أن نردع كل الصحف التي تحاول المساس بنا ردعًا حازمًا بسُلطتنا.. ولكن يجب أن ننشر هجومًا على أنفسنا من آنٍ لآخر نحن الذين نكتبه.. ويكون في الواقع هجوم على النقاط التي نود تغييرها في سياستنا.. هكذا تكون العبقرية الحقة.. وكل المعارضات التي سندبرها لأنفسنا ستكون معارضات سطحية لا تقترب من الأمور الهامة. 

ولابد أن نتحكم نحن وحدنا بالأخبار دون غيرنا.. فمعروف أن الأخبار تصل للصحف عن طريق وكالات معدودة تتركز فيها الأخبار وتوزعها على الصحف.. وحينما نصل إلى السلطة سنمتلك كل هذه الوكالات ولن ننشر إلا ما نحتاج إلى التصريح به من أخبار. 

ولابد أن نشتري أكبر عدد من الصحف بأنواعها الثلاثة.. الصحف الحكومية يجب أن ترعى مصالحنا كلية.. والصحف الشِّبه رسمية الهدف منها هو استمالة قلوب المحايدين.. أما الصحف المعارضة هي النوع الثالث وهي ستظهر وكأنها مخاصمة لنا.. وسنجذب بها كل معارضينا ليفرغوا فيها أفكارهم.. وبالتالي نتركهم يكشفون لنا أوراقهم بأنفسهم. 
_214_

أما ناشروا الصحف أنفسهم فيجب أن نختارهم ليكونوا من أصحاب الفضائح السرية المخزية التي نعرفها وستسمح لنا بكشفهم في حال أردنا ذلك متى أردنا ذلك عند ظهور أي بادرة من بوادر العصيان لديهم. فصحفنا يجب أن تدعم وتمثل كل الطوائف بلا استثناء.. وبهذا تكون مثل الإله الهندي "فيشنو" ذي مئات الأيادي.. وكل يد منهم ستجس لنا نبض طائفة من طوائف الرأي العام المتقلب. 

بالنسبة للنشر فيجب أن تكون هناك هيئة في كل دولة تسمح أو ترفض نشر المنشورات.. سواء كانت كتب أو أفلام أو دوريات.. وهذه الهيئة يجب أن تكون بين أيدينا نحن.. لنقدر على التحكم بكل ما ينشر في كل مكان.. فالأدب والثقافة أعظم سلاح لنهضة أي أمة وطالما هما في أيدينا فسنكون مطمئنين. 

حتى نبعد الناس عن مناقشة الأمور المهمة سنختلق لهم دائمًا مشاكل جديدة تبعدهم عن هذا.. مشاكل اقتصادية أو سياسية في بلدانهم.. وحتى نلهي عقولهم عن الخوض في المسائل التي لا يجب عليهم الخوض فيها سندعوهم لمختلف مزجيات الفراغ مثل المسابقات الرياضية والفنية على اختلاف أنواعها.. فالجماهير الغوغائية مثل الطفل.. عندما يلح في طلب شيء ما تقول له "انظر هذا العصفور" فينظر له ناسيًا ما كان يلح على طلبه. 

لن يرتاب أحد في أننا نحن الذين ندبر كل مشكلات الدنيا عبر خطة سياسية لم يفهمها بشر طوال قرون كثيرة.. ولو قيل لأحدهم أننا ندبر كل هذا فسيقول مستهزئًا إن هذا مستحيل.. لأنه لا يمكن لأحد أن يدبر كل هذا ويخطط لكل هذا.. غير عالم أننا في سبيل أن نصل لما وصلنا إليه كافحنا وضحينا بكل شيء حتى ملكنا الذهب والمال وصرنا أغنى أهل الأرض.. ومن يملك المال يملك كل شيء. 
_215_

لقد تفضل علينا الملاك الساقط "سيربنت" بتدمير كل العقائد البشرية وتحريفها عن مواضعها.. فابتدع الناس التلمود بعد التوراة وجعلوا عيسى ابنًا لله وإلهًا معه بعد أن كان رسولًا.. ورغم أننا لم نقدر على تدمير الإسلام تمامًا كما فعلنا مع اليهودية والمسيحية إلا أننا أخرجنا من عباءته الشيعة فأذاقوه ويلات كانت تتفق في شدتها مع ضربات أشد أعداء المسلمين. 

فما وصلنا لما وصلنا إليه إلا لأننا نشرنا جوًّاسيسنا في كل بلدة وجعلناهم يذوبون مع المجتمعات ذوبانًا لا يمكن تمييزهم به.. وهؤلاء يعطوننا تقاريرَ مفصَّلة عن حالة تلك البلدان الاجتماعية والسياسية والدينية ونبض الشارع الحقيقي. 

في ختام هذا اليوم أود أن أقول إن الغوييم الحمقى لن يعرفوا أبدًا الطريقة المثلى للتعامل مع أي ثورة.. إن الثورة ما هي إلا نباح كلب على فيل.. مجرد نباح.. وليس على الفيل إلا أن يظهر قوته مرة واحدة لتشرع الكلاب في البصبصة أذنابها لما ترى الفيل. 

اليوم الثالث والأخير.. 

لن أطيل الحديث في هذا اليوم.. سيكون مجرد تنويه بسيط.. وآمل أن يكون الكل قد راجع وكتب وفهم وحفظ.. إن حكام الغوييم بسبب جهلهم.. وكلهم جهلة بالمناسبة قد أجبروا حكومتهم على الاستدانة من بنوكنا أموالا طائلة لو عاشوا قرونًا على قرون لن يستطيعوا أداءها.. نحن عملنا طويلًا لنصل إلى هذا.. لقد عملنا طويلًا ياسادة حتى نجحنا في استعباد الجميع.. حتى نجحنا أن ندخل الدول جميعها في هذه الدوامة التي لا فكاك منها.. ويجب أن نحافظ على ما فعلناه.. ومافعلناه إلا بتوجيه من حضرة جنابه الكريم.. مليكنا الذي سيحكم العالم كله من عرش داوود.. ومن نسل داوود. 
_216_

نعم نمتلك الذهب.. ونعم يمكننا في أي وقت أن نسحب منه أي مقدارٍ نشاء من حجرات كنزنا السرية.. ذلك الذهب الذي ظللنا نكدسه قرونًا طويلة.. وفي النهاية ياسادة ستوزع عليكم الآن الوثيقة للتوقيع عليها جميعكم.. لقد اجتزنا دربًا طويلًا.. وإن أمامنا درب أطول وأشد بأسًا.. وعلينا أن نكون متيقظين. وقَّع على الوثيقة ممثلوا صهيون الماسونيين من الدرجة الثالثة والثلاثين. 

تمَّت 


***


_217_


تحليل القصة 9


كيف تسربت هذه المحاضرة إلى العامة؟ إنَّ لهذا قصة.. 

كان أحد الحاضرين في هذه المحاضرة رجلًا سكّيرًا.. وقد عاد إلى مخدعه ليستمتع بإحدى الفتيات المومسات.. هذه الفتاة التي سرقت حقيبته ظنًّا منها أنها تحوي مالًا وفيرًا جديرًا برجل ملياردير مثل هذا.. لكن تلك الحقيبة في الواقع كانت تحتوي على المستندات التي سُجلت فيها هذه المحاضرة بالكامل.. وقد كانت مكتوبة باللغة العبرية. 

لم تفهم الغانية شيئًا بالطبع فأعطت هذه المستندات لرجل مهم من زبائنها.. رجل روسي صادف أن يكون هو "نيكولا نيفيتش" كبير أعيان روسيا القيصرية.. وقد استشعر أنها مستندات تبدو غير مريحة فأعطاها إلى مترجم روسي كان صديقًا له وهو "سيرجي نيلوس" ليترجمها إلى اللغة الروسية.. ولما ترجمها هذا الأخير فزع فزعًا شديدًا من محتواها وأخبر "نيكولا" بفحواها كلها. 

غضب "نيكولا" غضبًا شديدًا جدًّا وقرر أن يفضح اليهود وكبراءهم على الملأ.. ففي هذه المستندات ذِكر واضح أن اليهود ينوون أن يقيموا ثورة في روسيا كما فعلوا في إنجلترا وفرنسا.. كانت روسيا أيامها قيصرية.. وكان اليهود مضطهدين فيها.. ولقد طبع "نيلوس" كتابًا نشر فيه هذه المستندات كاملة مكملة.. كتاب سمَّاه "بروتوكولات حكماء صهيون". 

جنَّ اليهود جنونًا كبيرًا وزعموا أن كل هذا كذب وافتراء.. لكن من قرؤوا الكتاب لم يصدقوهم لتطابق ما حدث فيها مع ما حدث في العالم.. ويستحيل أن تجتمع كل تلك المصادفات لتخدم اليهود وحدهم.. جن جنون العالم على اليهود خاصة بعد أن تمت تصفية "نيلوس" صاحب الكتاب بطريقة مريبة. 

وبدأت المذابح تقام ضد اليهود في روسيا.. وأول مذبحة راح ضحيتها عشرة آلاف يهودي.. وكافح اليهود طويلًا لإيقاف تلك المذابح حتى نجحوا في وقفها باستغلال نفوذهم في بريطانيا للضغط على روسيا. 
_219_

وفجأة حدثت الثورة الروسية كما توقعت البروتوكولات تمامًا.. حدث الانقلاب الشيوعي وسقطت روسيا في قبضة البلاشفة الذين كان أكثرهم من اليهود.. كان الناس يريدون الهرب من القيصرية فوقعوا في جحيم الشيوعية اليهودية.. وبدأت الشيوعية في التسلل بسمومها اليهودية إلى كل الدول الملاصقة لروسيا.. فالشيوعية باختصار هي الكفر بكل الأديان مع الانحياز للدين اليهودي. 

وبدأت البروتوكولات في الظهور في العالم مرة أخرى عندما تُرجمت إلى الإنجليزية.. لكن نجح اليهود عبر نفوذهم في وقف انتشارها في بريطانيا.. ثم ترجمت إلى الألمانية ونُشرت في ألمانيا لكن اليهود نجحوا أيضًا في وقف انتشارها عبر نفوذهم في ألمانيا. 

ثم انتشرت في أمريكا وإيطاليا لكنها اختفت بنفس سرعة انتشارها.. وظهرت إشاعة مفادها أن كل من يقوم بترجمة أو نشر هذه البروتوكولات تتم تصفيته.. وفي النهاية وصلت إلى مصر.. وتحديدًا إلى "أنيس منصور" الذي رفض ترجمتها خوفًا من الإشاعة.. ثم أخيرًا وصلت إلى "عباس محمود العقاد".. والذي ترجمها إلى العربية بشجاعة نادرة ونشرها. 

وأخيرًا ذكرها الممثل المصري "محمد صبحي" في مسلسل من كتابته ورؤيته يدعى "فارس بلا جواد".. وقد انزعجت إسرائيل أيما انزعاج من ذلك المسلسل ووصفته بأنه معادٍ للسامية. 

الطريف في الأمر أنه على أغلفة كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" كان الناشرون يرسمون أفعى.. رأسها حكماء صهيون الذين يبتسمون بخبثٍ وجسدها الشعب اليهودي.. وأنها تمر على البلاد الأوروبية لتسقطها وتشعل فيها النيران والفتن والثورات.. غير عالمين أنهم في الحقيقة قد رسموا رسمًا كاريكاتوريا للأفعى "سيربنت".. الشيطان. 
_220_

وعمومًا لم يكن هذا هو اجتماع حكماء صهيون الوحيد.. وإنما اجتمعوا مئات الاجتماعات بعدها ليناقشوا نفس الخطة ويراجعوها ويعدلوا عليها. 

ولم يكن هذا هو الكتاب الوحيد الذي مات مؤلّفه بشكل مريب.. بل هناك كتب أخرى مثل كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج" للمؤلف "ويليام جاي كار".. وكتاب "اليد الخفية" ومؤلفه الأمير الاسكندنافي "شيريب سبيريدوفيتش".. وهذا الكتاب الذي بين يديك الآن والذي سيموت مؤلفه بعد سويعات قلائل. 

لقد ذكر حكماء صهيون الإعلام وسطوة الإعلام.. إن أكبر منوم في التاريخ هو عبارة عن صندوق صغير موجود في زاوية الغرفة.. وهو يملي علينا باستمرار ما يجب أن نؤمن به على أنه حقيقة واقعة.. وإني أود أن أصرخ في أذنك بشيء عن الإعلام.. كل ما تسمعه من الإعلام أو من السياسيين هو عن نقاط اختلافنا.. الأشياء التي تمزقنا.. الأشياء التي تفرقنا.. هكذا يريدون لنا.. سيركزون على أي شيء يجعلكم تتفرقون. . العرق.. الدين.. القومية.. المدخول المالي.. التعليم.. المستوى الاجتماعي.. التوجه الجنسي.. الوظائف.. أي شيء يمكنهم أن يفعلوه ليبقونا متصادمين. 

وأنت نفسك يمكن أن تتحول لتكون مثل هؤلاء الحثالة.. عندما تفتح الفيسبوك الخاص بك وترى خبرًا ما يهاجم طائفة لا تميل إليها.. فتضغط زر المشاركة فتنشر الخبر.. دون أن تتأكد منه وتتيقن.. عندئذ يا صديقي تكون مثل هؤلاء.. حثالة.. لأن ما تفعله يهدم ولا يبني.. ماتفعله يروي الدماء ولا يحقنها.. ماتفعله يخدم كلمة فرق تسد.. فرق أمتك.. فرق بلدك.. هذا ما تفعله حقيقة. 

لو أنني رئيس عربي في بلدك هل تعرف ماذا سأفعل؟ سأفعل مثل "علي بن أبي طالب" في أحداث الفتنة بين الصحابة.. سأوحّد كل التيارات حتى تلك التي أشك في وجود عملاء وخونة بينهم.. وسأسقط لك مثالًا على مصر.. وماشاهدته يحصل في مصر. 
_221_

انقسم المصريون إلى طائفتين.. طائفة مؤيدة للعسكر.. وطائفة مؤيدة للإخوان المسلمين.. وكل طائفة تقول إن الطائفة الأخرى هم عملاء وخونة للبلاد.. فالإخوان في نظر العسكر إرهابيون أرادوا أن يبيعوا مصر.. والعسكر في نظر الإخوان منقلبون خونة ديكتاتوريون سارقون وناهبون وظلمة.. فجأة انقلبوا على بعضهم البعض وصاروا يكيلون لبعضهم الهجمات على أرض الواقع ويكيلون لبعضهم الاتهامات على الفيسبوك.. نسى الكل أنهم مصريين يحملون جميعًا نفس الدم ونفس الهم ونفس اللون ونفس النفس ونفس التراث. 

لو أنني رئيس لبلدك مصر فأنا أفهم من الذي من مصلحته أن ينقسم شعبي ويتصارع هكذا.. ولعلك حضرت اجتماع قادة صهيون وتعرف كما أعرف من الذي يغذي كل تلك النعرات ويحييها ويشعلها.. فالخطوة الأولى كرئيس لبلدك هي أن أصلح بين الطائفيتين.. فأنا أفهم أنه ولو كان هناك خونة أو عملاء في أي طائفة منهما فهؤلاء الخونة لا يمثلون طائفتهم.. وإنما يمثلون أنفسهم.. فكما أنني لو اكتشفت في المخابرات المصرية جاسوسًا إسرائيليًّا لا أحكم على المخابرات المصرية كلها بأنهم خونة.. فأيضًا لو اكتشفت أن هناك جاسوسًا من الإخوان لا أحكم على كل إخوان مصر بأنهم جماعة إرهابية وألاحقهم كما ألاحق المجرمين بهذا التعسف والغباء.. أتعلم أمرًا؟ 

حتى لو اكتشفت جماعة من الجواسيس في إحدى الطائفتين.. سأتركهم كما هم.. لن أتخذ إجراء استعراضيًا أفرّق به شعبي إلى قسمين.. سأتركهم حتى تأتي اللحظة المناسبة وأنقضّ عليهم بجريمتهم.. ألم يخبر الله نبيّه "محمد" عن المنافقين وكان يعرفهم؟ ماذا فعل؟ هل قام بمحاكمتهم وملاحقتهم ونفيهم؟ لا لم يفعل.. حتى لا تحدث فتنة ينقسم بها الناس.. لما علم "علي بن أبي طالب" أن قتلة "عثمان بن عفان" هم من كبار قبائل العراق.. ماذا فعل؟ هل ذهب وقاتلهم؟ لا لم يذهب.. بل انتظر لأنه لو قاتلهم ستحدث فتنة وسيخسر قبائلهم كلها.. وكان منهم قواد كبار في جيش المسلمين.. 
_222_

هذا ما سأفعله في بلدك لو صرت رئيسًا لها.. سأترك المنافقين على نفاقهم حتى تحين لحظتهم المناسبة.. لأن في ضربهم تفرقة لشعبي.. وفي تفرقة شعبي هزيمة لبلدي.. ونصر لعدوي. 

الأوراق التي تبقت قليلة.. ولدينا هذه المرة ورقة واحدة هي ورقة الأجندة الليبرالية.. وفيها صورة رجل يبدو يهوديًّا يمسك بورقة طويلة جدًّا يقرأ فيها بسعادة.. 

لقد أخبرتك في البداية أن هناك سبعة شياطين تراقبنا.. وسأسمّي لك منهم الشياطين الذن ذكرتهم الحكايات حتى الآن.. الشيطان الأول هو "لوسيفر".. كبير الشياطين وأنت تعرف حكايته مع "النمرود".. الثاني هو "سيربنت" الأفعى .. شيطان الإغواء والفتن.. الثالث هو "بافوميت".. الشيطان معبود فرسان الهيكل .. شيطان السحر وكتب العلوم الشيطانية.. الرابع هو شيطان من بني الإنسان .. "دراكولا".. وإن روحه المعذبة الدموية تراقبنا أيضًا.. 

ثلاثة شياطين بقوا لم تعرفهم.. يحملون ثلاثة أسرار.. والحكاية التالية هي حكاية عن شيطان منهم.. شيطان رجيم.. الشيطان الخامس.. 


***


_223_


شيطان بني إسرائيل
1350 بعد الميلاد – 1912 بعد الميلاد


فجأة أمطرت السماء جثثًا بشرية.. نظر سكان مدينة "كافا" الأوكرانية القديمة إلى سمائهم في ذلك اليوم نظرة من الطراز الذي تنظره إلى الهول ثم تدير رأسك وتفر هاربًا.. لقد كانت السماء تمطر جثثًا على رؤوسهم.. نظرت أنت إلى المشهد بتمعن.. حقًّا إنها جثث تتساقط.. ولكنك ترى بين هذه الجثث كيانًا معلّقًا في السماء.. لا تدري ما هو بالضبط.. عباءة سوداء يهز الهواء أطرافها كما ترى في مشاهد الأساطير.. الرأس يختفي في الظلام لأن العباءة تغطي الرأس أيضًا.. لكن الوجه واضح.. واضح باستفزاز.. الوجه كأنه قناع أبيض له ملامح ساخرة.. كان هذا الكيان معلقًا في الهواء تتطاير من ورائه جثث تُرمَى بسرعة هائلة فوق أسوار مدينة كافا لتمطر على السكان الذين يجرون هنا وهناك غير فاهمين لأي شيء. 

حتى تفهم هذا المشهد ينبغي أن تعرف أولًا أن مدينة كافا في هذه اللحظة كانت تغلق أسوارها على نفسها لأن المغول كانوا خارج الأسوار يحاصرون المدينة.. أيامها كان الطاعون الأسود قد بدأ ينتشر في آسيا.. وبدأ يصيب الجنود المغول الذين يحاصرون مدينة كافا.. وتحول غضب المغول إلى أول حرب بيولوجية في التاريخ.. وضعوا جثث جنودهم الميتين بالطاعون على المجانيق وأطلقوها تباعًا لتعبر فوق أسوار مدينة كافا وتسقط وسط أهلها الذين لم يفهموا الأمر في البداية.. ثم فهموه لمّا مات منهم عدد ضخم بالطاعون في الأيام التالية. 

إنه "ماستيم".. ذلك الكيان الأسود الساخر الذي رأيته يطير وسط الجثث.. وهاأنت تراه مرة أخرى يطير.. ولكن في سماء أخرى.. في أوروبا هذه المرة وتحديدا في مدينة بيزانسون الفرنسية.. لكنه هذه المرة لم يكن ساخرا.. بل كان حزينًا.. القناع الساخر الذي كان وكأنه يرتديه أصبح الآن قناعًا حزينًا.. كان يطير في السماء ناظرًا إلى مشهدٍ ربما هو الذي أحزنه.. كان هناك نفر كثير من رجال عراة الأقدام يلبسون ملابس من أكياس الخيش ويمسكون سياطًا يضربون بها اليهود في الشوارع وبداخل البيوت.. يضربونهم حتى سالت الدماء من جلودهم.. وحتى فارقت أرواحهم أجسادهم. 
_224_

كان حاملي السياط مسيحيين كاثوليكيين أوروبيين.. لماذا يضربون اليهود بالسياط؟ سأخبرك.. لما هرب الناس من مدينة كافا بعد أن رماهم المغول بوابلٍ من الجثث الطاعونية.. سكن الهاربون من المدينة في مختلف مدن أوروبا.. وحملوا معهم الطاعون إلى تلك المدن جميعها.. ولم تمضِ سنة واحدة إلا وعدد الوفيات قد زاد عن العشرة ملايين إنسان أوروبي.. ولم تنته السنة الثانية إلا وقد تضاعف هذا العدد ليصبح خمسة وعشرين مليون إنسانًا.. ثلث سكان أوروبا كلهم ماتوا.. كان من أصابه الطاعون يموت.. وكل من اختلط به ولو مرة يموت.. ومن حمله إلى القبر يموت.. كانت أيامًا رهيبة. 

وفقد الناس إيمانهم بالطب وبالرب وبالكنيسة وبكل شيء.. وانتشرت إشاعة لم يستطع أن يسيطر عليها أحد.. إشاعة تقول إن اليهود هم سبب الطاعون.. فهم سمموا الآبار والأنهار الأوروبية كلها بسبب كرههم للمسيحيين الكاثوليك الذين كانوا يضطهدونهم في ذلك الزمن.. وهجم الناس على اليهود هجوم الأكلة على قصعتها.. وأول من هجم على اليهود نفر من الناس يحملون السياط.. كان ذوي السياط هؤلاء قبل الإشاعة يمشون في الطرقات في مسيرات أسبوعية ويضربون أنفسهم حتى تخرج دماؤهم منهم.. عل الإله يخفف عن الناس أمر ذلك الوباء الذي قتل ثلث سكان أوروبا دفعة واحدة.. وبعد الإشاعة.. توقف هؤلاء عن ضرب أنفسهم وهجموا على اليهود بكل القسوة والغِل الساكن في قلوبهم. 

إن "ماستيم" يحزن وجهه كلما حدث اضطهاد لليهود في أي ناحية من نواحي الأرض.. إنه يذكر كيف كان حزينًا لما جُمع اليهود ورُبِطوا في ساحات مدينة نوريش الإنجليزية وحُرِقوا أحياء.. كان ذلك لأن المسيحيين اتهموهم بأنهم قاموا بالتضحية بالطفل المسيحي "ويليام" ليستخدموا دماءه في طقوس عيد الفصح اليهودي.. وقد تكررت تلك التهمة مرات ومرات في أوروبا وفي كل مرة يجمع اليهود فيها ويُقتَلون بدم باردٍ. 
_225_

ولازال "ماستيم" يتذكر حزنه أيام الحملة الصليبية الأولى.. لما فكر المسيحيون قليلًا وقالوا لأنفسهم.. نحن سنسافر عبر الأرض لقتال أعداء الصليب.. أليس أولى أن نقتل أعداء الصليب الذين يعيشون بيننا.. اليهود هم قتلة المسيح وأنصاره.. وهجموا على اليهود هجمة رجل واحد في مدينة مينز الألمانية وقتلوا ألفًا منهم دفعة واحدة.. وظلوا يقتلون فيهم حتى بردت دماؤهم وهدأت قلوبهم. 

وبقى وجه "ماستيم" حزينًا وهو يشاهد ألمانيا تطرد اليهود ثم تبعتها إنجلترا.. ثم فرنسا وإيطاليا والنمسا وسويسرا والمجر وهولندا.. ولم يجد اليهود لهم سكنًا في الأرض سوى في الأندلس.. التي كان المسلمون يحكمونها بالعدل.. واستقبلهم المسلمون وأكرموا وفادتهم وأعطوهم الأرض والسكن.. وحرية ممارسة الشعائر بعد أن كانوا يمارسونها في غرفهم المغلقة خوفًا وذعرًا.. حينها كنت ترى الشيطان اليهودي "ماستيم" يطير فوق الأرض الأندلسية وعلى وجهه مايشبه الابتسامة.. ولم تكن ساخرة هذه المرة بل كانت سعيدة. 

وفجأة غزا الصليبيون الأندلس واحتلّوها.. وطار "ماستيم" هذه المرة بوجه خائفٍ مما سيحدث لليهود.. ويبدو أن خوفه كان في محله.. فقد أجبر الصليبيون كل سكان الأندلس المسلمين أو اليهود على التنصر أو مغادرة البلاد.. وبالنسبة لمن تنصّروا فلم يتركهم الصليبيون في حالهم.. بل عقدت لهم حكومة إسبانيا محاكم تدعى محاكم التفتيش.. يُعدَم فيها كل من يشتبه بأنه تنصَّر ظاهريًا بينما هو مسلم أو يهودي في الخفاء.. وهاجر كل من رفض التنصر.. وبالنسبة لليهود.. فلم يجدوا لهم مكانًا يؤويهم بعد هروبهم من الأندلس إلا مكانًا واحدًا.. أراضي الدولة العثمانية الواسعة.. ومرة أخرى استقبلهم المسلمون وأكرموهم.. أدخلهم السلطان العثماني "سليمان القانوني" وأكرم وفادتهم.. ولكنه اشترط عليهم شرطًا صارمًا.. أن يسكنوا في أي أرضٍ من أراضي الدولة العثمانية شاءوا.. عدا أرض واحدة محرَّم عليهم دخولها والسكن فيها.. أرض فلسطين. 
_226_

ثم توقف الشيطان "ماستيم" لوهلة في السماء.. وأدار وجهه ناظرًا إلى مشهد أثار اهتمامه.. كان ينظر إلى شيطان آخر اقتحم أجواء الدولة العثمانية وتحديدًا في اسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية.. ذلك الشيطان كان مألوفًا.. إنه "سيربنت" الأفعى الغاوية.. يبدو أن دور بلاد العرب قد أتى.. وحان أوان إسقاطها.. كان "سيربنت" يخترق الأجواء متجها إلى قصر السلطان "سليمان القانوني" نفسه.. ودخل "سيربنت" إلى القصر.. دخل إلى التوب كابي العثماني.. ولم ينتظر الشيطان اليهودي "ماستيم" ثانية أخرى.. لقد دخل وراءه. دخل "ماستيم" إلى القصر العثماني بسرعة ليفاجئه مشهدٌ غريبٌ.. كانت السلطانة "ماه دوران" زوجة الخليفة تتعارك بالأيدي عراكًا عنيفًا جدًّا مع جارية تدعى "روكسلانا".. كانت "روكسلانا" هذه فاتنة تبدو وكأنها الفتنة مجسدة في أنثى.. وكان يبدو أنها تخسر هذا العراك.. فقد أدمت السلطانة وجهها.. وتدخلت أم الخليفة وفضت هذا العراك الحاد.. وفجأة دخل الخليفة "سليمان القانوني" لترتمي في حضنه الفاتنة "روكسلانا" باكية شاكية مشيرة بيدها الجميلة إلى جروح رقبتها ووجهها.. نظر السلطان بغضبٍ شديدٍ إلى السلطانة "ماه دوران" وأصدر عليها أمرًا قاسيًا نوعا ما.. لقد نفى السلطانة "ماه دوران" إلى قصر مانيسا.. نظر الشيطان "ماستيم" إلى الفاتنة "روكسلانا" التي كانت تمسك بالخليفة في ذِلة ومسكنة وعيناها تبتسمان من ورائه ابتسامة ساخرة لم يلحظها أحد.. ابتسامة تحكي الكثير. 

نظر الشيطان "ماستيم" إلى الأفعى "سيربنت" الذي كان في تلك اللحظة فاتحًا فكيه في توحُّش ساخر تجيده الأفاعي.. ومن نظرة شيطان إلى شيطان فهم "ماستيم" كل شيء.. 
_227_

لقد كانت الجارية الفاتنة "روكسلانا" ساحرة يهودية أخذت كجارية من جزيرة القرم وأهداها تتار القرم إلى السلطان "سليمان القانوني".. ومن نظرة أخرى إلى الأفعى "سيربنت" عرف "ماستيم" أن أخذها كجارية لم يكن صدفة بل كانت مُرسلة في مهمة محددة.. محاولة التأثير على أقوى سلطان عثماني بالسحر.. حانت من "ماستيم" نظرة إلى الخليفة السلطان "سليمان القانوني".. كان هذا هو السلطان العثماني الذي اتسعت في عهده الدولة العثمانية إلى أقصى اتساع لها.. قويًّا كان.. عظيمًّا.. يستحيل إغواؤه أو التأثير عليه.. فلم يجد اليهود خيرًا من السحر.. ولم يختاروا ساحرًا عجوزًا بل أحسنوا الاختيار كعادتهم.. "روكسلانا" أكثر الساحرات التي عرفهن التاريخ فتنة وجمالًا.. ساحرة كانت تنام بين أحضان الخليفة معظم الليالي السبع في الأسبوع. 

ضم الشيطان "ماستيم" قبضتيه الاثنتين وأسند عليهما ذقنه.. وبدأ يشاهد وعلى قناعه ملامح ساخرة.. "روكسلانا" سحرت قلب الخليفة بجمالها قبل أن تسحره بتعاويذها.. وطلبت منه الزواج.. ورغم أن هذا كان ممنوعًا أن يتزوج الخليفة جاريته إلا أن السلطان "سليمان القانوني" ولأول مرة تزوج جاريته وكسر القاعدة.. لم يكن السلطان يملك أن يرفض.. فنحن نتحدث عن سحر الهوى والغرام والمحبة وهذا من أشد أنواع السحر.. كانت "روكسلانا" تقيم في قصر الحريم أو الحرملك.. ولم تكن تحب ذلك.. فصحا الجميع ذات يوم على حريق هدم أحد جدران الحرملك وأصبحت الحريم تجري و"روكسلانا" تهرع إلى حضن السلطان وتختبىء وترجوه أن ينقلها لتعيش معه في القصر.. وبالفعل نقلها ولكن وضعها في جناح مستقل مجاور لجناحه.. فلم يعجبها هذا.. فأمرت ببناء باب بين جناحها وجناح السلطان فاندمج الجناح والجناح ليصبحا جناحًا واحدًا.. وبهذا أصبحت هي والخليفة لا يفترقان أغلب اليوم.. ولقد أحبت ذلك.. وكانت راضية.. وسعيدة. 
_228_

ثم أصبح السلطان "سليمان القانوني" يقوم بأمور عجيبة جدًّا لا يقوم بها من له تاريخ كتاريخه.. ففجأة أمر السلطان بإعدام مفتي الدولة "إبراهيم باشا" وصديق صباه.. والإعدام في الدولة العثمانية كان يتم خنقًا بخيط من حرير أحمر.. نظر "ماستيم" إلى الأفعى "سيربنت" نظرة متسائلة.. فأشار "سيربنت" إلى "روكسلانا".. كانت مكيدة دبرتها.. مكيدة شككت السلطان في صديق صباه المفتي الأعظم.. فعلت ذلك لأن هذا المفتي كان يؤيد أن يتولى الخلافة بعد "سليمان القانوني" ابنه المجاهد العظيم "مصطفى".. ولم تكن تحب ذلك.. كانت تريد الخلافة لابنها هي من السلطان.. ابنها الخامل المعتوه "سليم". 

طار الشيطان "ماستيم" ليلقي نظرة على "سليم" هذا.. فوجده في أحضان "راشيل" جارية يهودية إسبانية أهدتها "روكسلانا" إليه.. كان كثير السكر لا يخرج من مخدعه مع جاريته أبدًا إلا إذا استدعاه السلطان "سليمان".. ظهر على قناع "ماستيم" بعض السخرية.. ثم طار عائدًا إلى الساحرة.. إلى "روكسلانا". 

إن "سليمان القانوني" مُصر على أن يتولى "مصطفى" ابنه الحكم من بعده.. لكنها لم تكن تحب ذلك.. وفي ذات يوم كان "مصطفى" في بلاد فارس.. وهانحن نراه يدخل في خيمة يفترض أن يقابل فيها أبوه الخليفة.. وفور أن دخل "مصطفى" إلى الخيمة هجم عليه خمسة رجال ملثمين لا ترى من وجوههم سوى عيون عابسة.. كانوا يخنقونه بخيط من حرير.. وبينما هو يقاوم بكل ما وهبه الله من قوة وعنفوان إذ به يرى والده الخليفة "سليمان القانوني" يقف أمام المشهد ناظرا في صرامة.. إنه يشهد إعدام ولده.. فلذة كبده.. لقد التفت عليه الأفعى حتى لم تترك في روحه مكانا لأي شيء سوى السحر.. السحر الأسود.. أقنعته الفاتنة "روكسلانا" والمفتي الذي وضعته هي بنفسها بدلا من المفتي المقتول.. أقنعاه أن "مصطفى" ولده يدبر مكيدة للانقلاب عليه وأخذ الحكم منه.. وبالنسبة ل "سليمان القانوني" كان هذا يعني الخيانة.. وصرامته في تنفيذ القانون التي استقى منها اسمه لم تدع له مجالًا للتفكير في مشاعر الأبوّة.. 
_229_

وهاهو "مصطفى" ينهار بين أيدي الملثمين وتخور قواه ويسقط على الأرض جثة هامدة بلا روح.. ثم أرسلت "روكسلانا" من يقتل ابنه الرضيع في بورصة حتى ينقطع هذا النسب تمامًا. 

لم يكن الطريق خاليًا بعد للابن الخامل "سليم".. كان هناك للسلطان ابن آخر.. ابن من "روكسلانا".. ولكنه مقاتل صنديد.. المشكلة أنها لم تكن تحب ذلك.. كان اسمه "بايزيد".. كادت الساحرة لابنها مكائدها حتى جعلته يتمرد على السلطان.. وكادت الساحرة مكائدها عند السلطان حتى جعلته يأمر باللحاق به وإعدامه هو الآخر بتهمة الخيانة العظمى.. وكان هذا ثاني ابن للسلطان يأمر بإعدامه.. أي سحرٍ أسود لعين هذا.. بل إن اللعنة كلها كانت تتحدث عن نفسها لحظة الإعدام.. الأمير "بايزيد" يقف في الغابة وحوله أربعة أولاد صغار هُم أطفاله وأحفاد السلطان.. وحولهم نفر كثير من جنود السلطان يحاصرونهم في غِل.. قتلوا "بايزيد" ثم قتلوا أولاده بدم بارد.. قتلوهم وهم يعرفون تمامًا أن السلطان سيسعد بهذا وسيكافئهم على قتل ابنه الخائن.. ولأحفاده الذين لا ذنب لهم.. تحول قناع "ماستيم" من طور الابتسامة الساخرة إلى طور الضحكة الساخرة المتشفية.. وطار عائدًا إلى الساحرة "روكسلانا" مرة أخرى. 

الآن فقط صار الطريق إلى كرسي الخلافة خاليًا.. ولم يعد من أولاد السلطان حيًّا سوى "سليم" الذي استحق عن جدارة لقب التنبل.. ظلَّ "ماستيم" يطير حوالي الساحرة اليهودية "روكسلانا" حتى ماتت بين أحضان السلطان "سليمان القانوني".. ماتت بعد أن أنجزت مهمتها على أكمل وجه ممكن.. ثم مات سليمات القانوني".. وصعد ابنه التنبل "سليم" إلى العرش. . لم يتغير شيء من حال "سليم".. ظلَّ سكيرًا عربيدًا.. كان "ماستيم" سعيدًا.. ليس بسبب غباء الخليفة الجديد ولكن بسبب ذكاء زوجته.. "راشيل" تلك الجارية اليهودية الإسبانية التي كان لا يغادر مخدعها ولا زال.. لقد مشت على خطى معلمتها "روكسلانا" وأصبحت تدير زوجها.. بل تدير الدولة العثمانية كاملة.. كانت هي الحاكمة الفعلية.. 
_230_

ليس هذا فقط.. بل إن والدها اليهودي "جوزيف ناسي" كان خليل السلطان "سليم" ومستشاره في أمور الخلافة ويقضي معه أغلب الوقت في السكر والعربدة.. الدولة العثمانية العظيمة الواسعة صارت تحكمها امرأة يهودية.. كذلك كان الحال في ذلك الزمن.. وكذلك كان قناع "ماستيم" منتشيًا.. وأقنعة اليهود الذين أرسلوا "روكسلانا" و"راشيل" منتشية. 

توفي التنبل "سليم الثاني" وخلفه ابنه التنبل أيضًا "مراد الثالث".. كان يبدو أنها سلالة من التنابل قد بدأت تظهر.. ظلت "راشيل" تحكم الدولة من وراء الستار.. بل إن سلطتها قد تصاعدت أكثر لأن "مراد الثالث" هذا هو ابنها الفاشل.. وبدأت الدماء اليهودية تنخر في عظام الدولة العثمانية بإشراف الأفعى "سيربنت" والمراقبة المتشفية للشيطان "ماستيم".. وبدأ اليهود الذين نزحوا من الأندلس من قبل يرتعون ويلعبون في أرجاء الدولة العثمانية كما يحلو لهم.. ويرتقون قي المناصب الهامة كما يحلو لهم.. الأخطر أنهم بدأوا ينظرون إلى الأرض التي حُرموا منها طويلًا ولازالوا محرومين.. أرض فلسطين.. ونظر معهم الأفعى "سيربنت" بعينيه المشقوقتين.. والشيطان اليهودي "ماستيم" بقناعه الأبيض. 

لم يُطل "ماستيم" المكوث في قصر الخلافة.. بل إنه طار فجأة إلى ساحة وسط مدينة اسطنبول.. كان مشهدًا مهيبًا ذلك الذي يحدث هناك.. رجل موضوعة قدماه في قالب من الطوب ومربوطة ذراعاه ورقبته إلى القالب.. ويحيط به حوالي ألف متجمهر.. وحوله عسكر من عسكر السلطان.. رأى "ماستيم" الشيطان الأفعى "سيربنت" يلتف حول قالب الطوب مرتفعًا برأسه مقتربًا بها من الرجل المقيَّد.. كان ذلك المقيَّد يدعى "ساباتاي زيفي".. وكان اليوم يوم إعدامه.. وكان يومًا مشهودًا كما هو واضح. 
_231_

إن "ساباتاي زيفي" يهودي.. يتبعه ألف يهودي. . يسموه أتباعه المسيح المخلص.. أما هو فيخاطبهم مسميًا نفسه مسميات عديدة مثل ابن الإله البكر.. أو أبوكم يسرائيل.. بل إنه يقول أنا الرب إلهكم الأعلى.. وُلد بعد فترة اضطهاد اليهود في أوروبا.. وتربى وهو يسمع أحاديث اليهود عن قرب ظهور المسيح المخلص الذي وعدهم به الله.. والذي سيأتيهم ليخلصهم من عذابهم ويحكم بهم الأرض كافة.. درَس التلمود ودرَس الكابالا.. ولما أصبح يافعًا خرج في اليهود يقول إنه المسيح المخلص.. وأنه لا قيام لهم في الأرض إلا بعد أن يدخلوا فلسطين فاتحين. 

جمع حوله العشرات ثم المئات ثم الآلاف.. وجاء عام 1666 .. ستة وستة وستة.. رقم الوحش كما يقول الإنجيل.. أعلن بين أتباعه اليهود أن الشيء الوحيد الذي يمنعهم من دخول فلسطين هو الدولة العثمانية الغاشمة.. دولة تغلبت جينات وزرائها العربية على الجينات اليهودية التي زرعتها "روكسلانا" في دماء سلاطينها فأصبحوا من بعدها تنابل السلطان.. رجال كانوا يصلحون ما يفسده السلاطين لو أفسدوا.. ويشدون على أيديهم لو أصلحوا.. يولونهم ويعزلونهم ويدبرون شؤون البلاد.. رجال شكلوا دولة واحد قوية.. دولة لابد أن نسقطها نحن اليهود.. فإما هذا وإما لا قيام لنا في هذه الدنيا أبدًا.. خرج "ساباتاي"في عدة مظاهرات تطالب بإسقاط السلطان.. فما كان من السلطان إلا أن أمر بالقبض عليه وإعدامه في الساحة العامة.. وليشهد العالمان إزهاق روحه الخائنة.. وهاهو "ساباتاي زيفي" يركع وأطراقه مثبتة إلى قالب من الطوب.. ورجال من رجال السلطان الأشداء حوله يشمرون سواعدهم للنيل من رأسه. 

وكان يبدو أن هناك مترجمًا بجواره يحدثه بحديث ما قبل أن يعدم.. طار "ماستيم" ليستمع.. كان المترجم يقول ل "ساباتاي" : 

- لقد فقدت عقلك يا "ساباتاي".. ويبدو أن حماقتك ستودي بك إلى الجحيم. 
_232_

نظر له "ساباتاي" وقال له : 

- لا جدوى لهذا الحديث الآن يا هذا. 

قال المترجم بلهجة من يقول أمرًا خطيرًا: 

- اسمعني جيدًا.. أنا يهودي مثلك.. ومؤمن بك وبدعوتك.. وإني أود أن أسوق لك اليوم فكرة تُنجيك من الإعدام وتكسبك عند السلطان هيبة.. بل وتكون لك هبة وعطية من السلطان. 

ظهرت الدهشة على وجه "ساباتاي" وقال للمترجم : 

- أي فكرة هذه يا بني.. هل تهزأ بي؟ 

قال له المترجم بسرعة : 

- أن تعلن إسلامك الآن وفي التو واللحظة وأنك تائب إلى الله.. وإلى دين المحمديين ارتاح قلبك. 

- يبدو أنك تهزأ بي حقا.. هل أنت يهودي حقا يا هذا؟ 

- ليس هذا ما تظن أيها المسيح.. أنت ستقول هذا بلسانك وحده.. ولن يصدق على هذا قلبك.. وستنشر دعواك سرا بين أتباعك المخلصين.. وسنكيد للسلطان حتى نسقطه.. وسنعود معك إلى فلسطين لتقيم دولة الإله الموعودة هناك. 

ضيق الأفعى "سيربنت" عينيه في سعادة أفعى.. ومثله فعل "ماستيم" في ملامح خبث يهودي.. ومثلهما فعل "ساباتاي".. وحدث ما اقترحه المترجم اليهودي بالحرف الواحد.. أعلن "ساباتاي زيفي" إسلامه على الملأ.. فعفى عنه السلطان.. وأعطى له عطية خمسين قطعة فضية شهريا.. خرج "ساباتاي" حرا طليقا.. وسمى نفسه "محمد افندي".. وأمر كل أتباعه أن يتحولوا إلى الإسلام كما تحول.. ويبطنوا اليهودية كما أبطن.. وأصبح هؤلاء يعرفون في الدلوة العثمانية باسم خاص.. يهود الدونمة.. أي اليهود التائبين العائدين إلى الله.. وانتشروا في أرجاء الدولة العثمانية ووصل بعضهم فيها إلى مناصب عالية وحساسة. 
_233_

كان لكل واحد منهم اسمان.. اسم إسلامي يُظهره ويتعامل به مع الناس.. واسم يهودي يبطنه ويتعامل به مع من هم على شاكلته.. كانوا يقيمون كافة شعائرهم اليهودية خلف أبوابهم المغلقة.. ماعدا الامتناع عن العمل يوم السبت حتى لا يُلفتوا الأنظار.. وابتدعوا فكرة الكتب الصغيرة التي يمكن إخفاؤها في الثياب.. كتب الجيب.. حتى يسهل عليهم إخفاؤها دائمًا.. كانوا يهودا ذوي مذهب خاص بهم لا يشاركهم فيه بقية اليهود.. شاعت بينهم الحفلات الإباحية التي يتبادلون فيها الزوجات.. ولهم عيد يُطفئون فيه الأنوار ويقعون على بعضهم البعض كالبهائم.. فإذا وُلِد لهم مولود من جراء هذا العيد يكون في عقيدتهم مباركًا.. لم يكونوا يحرّمون الزنا.. وانتشر بينهم بشكل رهيب زنا المحارم.. ينظرون إلى فلسطين على أنها أرض الميعاد.. ويستعجلون احتلالها حتى يُعجلوا بنبوءة التوراة.. المسيح المخلص الذي سينزل إليهم ويحكم بهم العالم من القدس.. ولحدوث هذا فهم لا ينتظرون نزوله مثل بقية اليهود وإنما سيسعون لتعجيل نزوله باحتلال فلسطين.. حتى يتسنى له أن يحكم العالم منها.. كان هؤلاء هم بذرة لشيء شديد البشاعة ظهر في السنين التالية.. شيء عُرف باسم كريه.. الصهيونية. 

وبدأ قناع الشيطان اليهودي "ماستيم" يحمل ملامح مرعبة شديدة البشاعة.. وظل طائرًا في الأجواء يتابع الأحداث.. تم نفي "ساباتاي زيفي" إلى ألبانيا حيث مات هناك بالكوليرا.. ظل أتباعه يؤمنون بالفكرة رغم أن مسيحهم مات.. قالوا إنه صعد إلى السماء وأصبح ملاكًا.. وأنه سيعود لما تقوم دولتهم الموعودة في فلسطين.. كانوا ينظرون إلى فلسطين بنهم.. وظلت الدولة العثمانية تمنعهم منها.. زاد عدد الواصلين منهم إلى مناصب الدولة العثمانية الحساسة.. حتى أصبحوا قيادات في الجيش.. وهنا بدأوا يلعبون لعبة أخرى.. لعبة تدعى الاتحاد والترقي. 
_234_

بعد مرور سنوات طوال، هرع "ماستيم" طائرًا إلى قصر الخلافة العثمانية الجديد المدعو قصر يلديز.. ودخل إلى حيث العرش.. وشهد هناك مشهدًا تاريخيًّا.. الخليفة العثماني "عبد الحميد الثاني" واقفًا وجها لوجه مع زعيم ومؤسس الحركة الصهيونية "تيودور هرتزل".. كان "هرتزل يقول له: 

- سيدي إن نحن حصلنا على فلسطين سندفع للدولة العثمانية الكثير.. نعلم أن الخلافة في أزمة مالية شديدة بعد الحروب العديدة.. نحن سنسوي لكم أوضاعكم المالية بدون قروض.. فقط نحن نريد فلسطين مِلكًا لنا. 

- لماذا تريدون فلسطين بالذات؟ إن بإمكانكم الاستقرار في أي مقاطعة عثمانية تشاءون. 

- إن فلسطين يا سيدي هي المهد الأول لليهود. 

- فلسطين لا تعتبر مهدًا لليهود فقط.. بل هي مهد لكافة الأديان. 

- لكننا أول من سكنها أيها السلطان . 

- كذبت.. سبقكم الفينيقيون والكنعانيون وغيرهم كثير. 

- لكننا كنا أطول الأمم حُكمًا لها. 

- بل حكمتموها أربعمئة سنة وحكمها المسلمون ثلاثة أضعاف مدتكم.. حكمناها ألف ومئتي سنة ولازلنا نحكمها وسنزال. 

- أنتم تؤمنون بالتوراة ياسيدي.. وفيها وعد صريح لنا بالأرض المقدسة 

- توراتكم ليست التوراة التي نؤمن بها.. وحتى في توراتكم المحرفة قلتم إن الله وعدها المصلحين من عباده.. وأنتم لم تصلحوا سوى ثمانين سنة زمان الأنبياء.. وأفسدتم في بقية الأربعمئة سنة كلها. 

- لسنا في جدل تاريخي يا سيدي.. إننا اليوم أتينا نمد لكم يد العون.. نرد لكم الجميل.. فقد استقبلتمونا في أراضيكم لما طردتنا الأمم.. ونحن نملك المال.. وأنتم في أمسّ الحاجة إليه.. وكل ما نطلبه أرض بسيطة لن نعدو خارجها.. سنهاجر لها من الأرض كلها ونسكن بها.. أراضيكم لا حدود لها يا سيدي.. ولن نزاحمكم فيها.. فبدلًا من أن نعيش متفرقين بين تلك الأرض وتلك.. اجمعونا في أرض واحدة. 
_235_

- ومن أنا حتى أبيعك فلسطين.. هل تظنها مِلكًا لي؟ أبيع فيها وأشتري متى أشاء؟ إنما هي ملك للأمة الإسلامية العظيمة.. فيها معرج سيدي محمد إلى السماء فكان قاب قوسين أو أدنى.. وإليها كانت قبلتنا.. اذهب إلى الشعب المسلم فردًا فردًا وائتني به شاهدًا لك ونصيرًا.. وسأبيعك إياها. 

- سنأخذ على عاتقنا تنظيم الأوضاع المالية.. وسنقيم لكم في أوروبا سدًّا منيعًا ضد آسيا.. وسنبني حضارة ضد التخلف. 

- لقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم الغالية.. فلتحتفظوا بملايينكم.. إذا مزقت دولتي يمكنك عندها أن تأخذ فلسطين بلا مقابل.. لكني لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة.. ولئن استمريتم في حماقتكم هذه لأطردن منها كل يهودي ولأنفينكم إلى حيث تنهش الأمم في لحومكم. 

تحول قناع "ماستيم" المرعب إلى ملامح غاضبة.. ولكن "هرتزل" أعطى السلطان ابتسامة على الطراز الصهيوني.. وسلم عليه وخرج مهزومًا.. لقد حاول إغراء السلطان بالمال.. لكنه عرف معدن "عبد الحميد الثاني" جيدًا.. ليس له إلا حل واحد نطقه بنفسه.. لن يعبر اليهود إلى فلسطين إلا على أشلائه.. وخرج "هرتزل" من القصر العثماني وطار "ماستيم" فوقه لا يفارقه. 

منذ سنوات من هذه الواقعة كان "هرتزل" يلقي خطبته المريبة في مجتمع حكماء صهيون.. وكانت خطته أن يدور الأفعى" سيربنت حول أوروبا فتسقط كل الملكيات فيها ثم تهبط أخيرًا في أرض العرب لتسقط الدولة العثمانية.. بعد مؤتمر صهيون هذا نجح الأفعى في إسقاط النظام القيصري الروسي بالثورة الروسية التي أودت بالبلاد إلى حكم شيوعي يهودي.. 
_236_

وها هي الأفعى "سيربنت" قد هبطت في أرض العرب.. وقد قال "هرتزل" في مؤتمر صهيون إن المنظمة الماسونية هي أداة يجب أن يستخدمها أبناء صهيون في خدمة خطة اليهود في كل زمان ومكان.. طار "ماستيم" وراء "هرتزل" إلى بلد تدعى سالونيكا في اليونان العثمانية آنذاك.. وهناك فهم "ماستيم" كل شيء. 

رغم أن اليهود الذين ادعو الإسلام أتباع "ساباتاي" كانوا قد انتشروا في أنحاء الدولة العثمانية كلها إلا أن أكبر تجمع لهم كان في سالونيكا اليونانية العثمانية.. وهناك نشط محفل ماسوني إيطالي وبدأ يجمع يهود الدونمة الذين وصلوا إلى مراكز قيادية في الدولة.. وخاصة العسكرية.. جمعهم كلهم وكون بهم جمعية اسمها جمعية الاتحاد والترقي.. وجعل تنظيم الجمعية يماثل التنظيم المتبع في المحافل الماسونية عادة.. وكان للجمعية هدف أساسي واحد.. إسقاط السلطان "عبد الحميد الثاني" بأي ثمن.. وشمرت الآلة الإعلامية اليهودية المعروفة عن سواعدها.. وشمر "ماستيم" عن سواعده وبدت يداه لأول مرة.. كان يملك أصابع طويلة وأظافر أطول.. وسواعد تبدو من شدة هزلها وكأنها عظمية وبدأ اليهود في عملهم الذي يجيدونه جيدًا منذ بداية الزمان. 

كان يبدو وكأن الدنيا كلها انقلبت فوق رأس السلطان "عبد الحميد الثاني".. مارسوا اللعبة المعتادة.. تهيج الشعب على الملك بأخبار زائفة وأحداث مفتعلة تبدو وكأنها من صنعه وليس له فيها ناقة ولا جمل.. فجأة أصبح السلطان طاغيًا ومستبدًا ومصاص دماء.. وزرعوا في عقول الناس أن الدولة العثمانية يجب أن تتحرر من استبداد الإسلاميين المتعنتين وتتحول إلى دولة متحضرة مثلها مثل إنجلترا وفرنسا.. قالوا إن السلطان هو عدو للتحضر وأنه يلقي المثقفين من نافذة قصره.. وأنه يرفض الموافقة على العمل بدستور متحضر يماثل دستور الدول المتحضرة ويتمسك بدستور قديم عفى عليه الزمن.. وكل هذا بدعم خرافي من الصحافة ودعم أسطوري من أصحاب المال اليهود.. وانضم للاتحاد والترقي كبار رجال الجيش العثماني. . 
_237_

بل إن وزير المالية في الدولة العثمانية كان يهوديًّا.. وقد ساهم طبعًا في تطبيق الطريقة اليهودية في التعامل مع الممولين اليهود مما يتيح لهم السيطرة على السوق.. رئيس مكتب الصحافة كان يهوديًّا.. وكان يغلق كل صحيفة تكتب كلامًا لا يخدم الاتحاد والترقي.. كانت حفلة اليهود قد بدأت على الدولة العثمانية.. ولم يكونوا ليرضوا بأقل من تشريحها إلى شرائح لا سبيل إلى إعادتها مرة أخرى. 

كان السلطان "عبد الحميد" واضعًا قانونًا صارمًا يتعلق بسفر اليهود إلى فلسطين.. فقد فرض على كل يهودي أن يحمل جوازًا أحمر يمنعه تمامًا من دخول فلسطين.. ويمنعه من شراء أي أرضٍ فيها.. وهاهو التاريخ ينظر معنا ومع "ماستيم" إلى مشهد فرقة من فرق الجيش قد انطلقت من سالونيكا لتخلع السلطان عبد الحميد بالقوة الجبرية.. ووصلت القوات إلى اسطنبول.. ودخل إلى السلطان لتسليمه قرار العزل الرسمي أربعة رجال أحدهم كان يهوديًّا والثلاثة الآخرين ليس فيهم عربي أو عثماني واحد.. بل إن أحدهم أرمني والآخر ألباني والثالث جرجي.. كان "ماستيم" في هذه اللحظة يضحك.. بل كان يقهقه. 

تم نفي السلطان إلى سالونيكا. بين أحضان اليهود وتم حبسه في أحد البيوت اليهودية هناك لمدة تزيد على الثلاث سنوات.. وكان السلطان يسمع بأذنه هتافات في سالونيكا تقول "سقط المستبد فارض الجواز الأحمر الذي حرم اليهود من فلسطين".. كان لايزال "ماستيم" يضحك بسعادة شيطانية.. وحق له أن يضحك.. فهاهم الاتحاد والترقي قد عينوا للمسلمين خليفة آخر هو "محمد السادس".. كان خليفة صوريًّا فقط بينما يحكم رجال الاتحاد والترقي اليهود البلاد.. نعم كانت تلك فترة من فترات الدنيا حكم فيها اليهود خلافة إسلامية واسعة. 

أسقط الاتحاد والترقي الجواز الأحمر.. وصار من حق أي يهودي أن يهاجر إلى أي مكان في فلسطين يشاء ويشتري فيها أي أرض أحب.. وارتفعت ديون الدولة العثمانية من ثلاثين مليونًا في عهد "عبد الحميد" إلى أربعمئة مليون.. كما فعلوا من قبل في أي دولة تمكنوا منها.. وتدفق اليهود من كل مكان إلى فلسطين.. حتى وصل عدد اليهود فيها إلى 85 ألف يهودي. 
_238_

كان الاتحاد والترقي يتعمدون حكم البلاد بالنزعة القومية التركية.. ويحقّرون من شأن العرب الجهلة البدو الرُّحل باعتبار الجنس التركي هو الجنس الفاتح العظيم الراقي.. وبالتالي قد سمح هذا التوجه العنصري لتوجُّه عنصري آخر أن يظهر بشكل طبيعي.. ضاق العرب ذرعًا بحكَّامهم الأتراك الذين يظنون أنفسهم فوق البشر.. وانتعشت في قلوبهم فكرة التحرر بعروبتهم من حكم هؤلاء.. خاصة وقد بلغت مناصب اليهود في الدولة العثمانية مبلغًا لا يمكن السكوت عنه.. ودخل اليهود فلسطين بعد أن كانوا محرومين.. فكر العرب في التحرر وعمل دولة إسلامية جديدة يحكمها خليفة عربي يعيد لهم مجدهم وعروبتهم. 

كان "ماستيم" الآن في فلسطين.. وتحديدًا في القدس.. يطير فوق الأقصى ويبتسم ابتسامة شيطانية صهيونية مخيفة.. لم تكن هذه نهاية الرحلة.. كان "ماستيم" يعلم جيدًا أنها مجرد البداية.. بداية عهد أنتيخريستوس. 

تمَّت 


***


_239_


تحليل القصة 10


"ماستيم" هو شيطان يهودي نادر الذكر.. لم يرد ذكره إلا في كتاب اليوبيلات الديني اليهودي القديم النادر ولم يُرسم إلا في مكانٍ غريبٍ جدًّا.. لعبة فيديو يابانية نادرة تدعى Megami Tesni .. صدرت على جميع أجهزة الألعاب تقريبًا.. ولم يظهر "ماستيم" إلا في الأجزاء التي صدرت على جهاز "نينتيندو دي إس" وجهاز "سيجا ساترن".. وفي المانجا التي رُسمت للعبة.. 

وبالنسبة لهذه الحكاية فإن كل ما ذُكِر فيا حقيقي تمامًا ومذكور بوضوح في كتب التاريخ المعتمدة.. فلا تظن أنني ألفق لك أخبارًا أو أزيفها.. لكني أعرض لك الحقيقة من أكثر مصادرها وثوقًا حتى تميِّز الخداع لما تسمعه.. فتزييف التاريخ وتشويهه لعبة كبيرة.. تخدم مصلحة واحدة فقط.. مصلحة اليهود.. ليس كل اليهود.. بل الفرع الصهيوني منهم. 

وبالمناسبة فتزييف التاريخ في هذا العصر الحديث لا يوجد أسهل منه.. قديمًا كان المؤرخون العرب أو الأجانب يكتبون التاريخ بأقلامهم في كتب أصلية.. ولما ظهرت طريقة طباعة الكتب الحديثة.. نُقلت هذه المخطوطات الأصلية إلى شاشات الكمبيوتر ببرامج الكتابة الشهيرة بمختلف إصداراتها.. وماينقله المحررون يراجعه المراجعون.. ثم تراجعه دار النشر.. ثم تراجعه هيئة النشر في تلك الدولة.. وخلال تلك المراحل جميعها تُحذف سطور أُريدَ لها أن تُحذف من المخطوطات الأصلية للكتب.. وتبقى سطور أُريدَ لها أن تبقى.. وكل دار نشر تطبع الكتاب تمر على هذه المراحل جميعها في كل طبعة.. والسطور التي يتم حذفها يكون ذلك لمصلحة سياسية أو دينية ما أو لأغراض في نفس المحرر أو المراجع أو الناشر.. وإني أتمنى أكثر ما أتمنى أن ينفذ كتابي هذا عبر هذه المراحل جميعًا دون أن يُحذَف منه حرف. 

قصة "روكسلانا" مع السلطان "سليمان القانوني" ظهرت في مسلسل تركي حديث يدعى "حريم السلطان" حيث سمّوا "روكسلانا" اسما عربيا هو "هيام".. وهم أيضًا أظهروا أنها مخادعة وتدبر المكائد طيلة الوقت.. وهو من المسلسلات التي صوَّرت الواقع بغض النظر عن الدراما المدسوسة التي لابد منها في كل مكان. 
_241_

إن جمعية الاتحاد والترقي كانت تنادي بالليبرالية.. والمشكلة أن من صنع كل الأفكار الكبرى في العالم هي المنظمة الماسونية.. والمتبنين لهذه الأفكار من عامة الشعب يتبنونها وهم أصلًا لا يدرون أن من أنشأها ماسونيون.. فمثلًا لما تسأل أحد اليساريين من أين أتيت بأفكارك سيقول "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز" وكلهم ماسونيون رسميون.. ولما تسأل صاحب المرجعية العلمانية أو الليبرالية من أين أتيت بأفكارك سيقول لك "فولتيير" و"جان جاك روسو".. وهم أيضًا ماسونيون رسميون.. فالماسونية هي صاحبة الأفكار الكبرى في العالم حتى وإن تناقضت هذه الأفكار بينها وبين بعضها.. فالغرض هو إبعاد الناس عن أفكارهم وتوجهاتهم الأصلية ليتبنوا توجهات أخرى تسمح لهم أن يتصارعوا مع بعضهم البعض.. وقد لا يكون بينهم وبين بعضهم أي مشاكل في الأصل. 

إن قصة "ماستيم" لم تنته كما هو واضح.. لذا دعنا نعرض مجموعة الأوراق التالية.. 

الورقة الأولى هي ورقة صكوك الغفران التي كان المسيحيون يبيعون فيها أراضي من الجنة للناس وعليها صورة ساخرة لصك مكتوب عليه 90 دولار مرتجعة لك لو تبين لك أننا نكذب.. 

الورقة الثانية والثالثة هي لنفس الشيء.. إسرائيل.. الورقة الأولى منهما عليها صورة جندي إسرائيلي يقف حارسًا وأمامه نجمة داوود مرسومة باللون الأبيض.. والورقة الثانية منهما عليها صورة قتال بين جندي إسرائيلي وبين مقاومين فلسطينيين إحداهما سيدة محجبة ترمي عليه الحجارة.. 
_242_

الورقة الرابعة هي ورقة الأمم المتحدة وعليها صورة رجلين في أزياء رسمية يصرخان في بعضهما البعض.. أحدهما أسود والآخر أبيض.. 

الورقة الخامسة هي ورقة جائزة نوبل للسلام.. وعليها صورة امرأة تبدو خبيثة ترتدي قلادة كبيرة. . 

الورقة السادسة هي ورقة روسيا وعليها صورة الكريملين. 


***


_243_


دماء على أرض الميعاد
1500 بعد الميلاد - 1948 بعد الميلاد


سابحًا في بحر أفكارهم كان.. يغوص فيها ويجول.. يمسك بعض أفكارهم في يده ذات الأظفار الطويلة.. وينظر إليها من وراء قناعه الأبيض المخيف.. ويبتسم.. ويطمئن.. كنت تراه عن بعد فلا تدري من هو.. وكيف يسبح في بحر أفكارهم هكذا.. ثم لم تلبث أن عرفته.. كان هذا هو الشيطان المريد اليهودي "ماستيم".. كان يسبح في بحر أفكار مذهب مسيحي جديد.. مذهب ظهر في أوروبا فجأة بعد أن طُرِد اليهود منها.. كان "ماستيم" يسبح في بحر أفكار أصحاب المذهب البروتستانتي. 

" اليهود هم أبناء الله وخاصته والمسيحيون هم الغرباء.. والغرباء لابد أن يرضوا أن يكونوا كالكلاب التي تأكل الفتات الذي يسقط من مائدة الأسياد" 
مارتن لوثر

وجد هذه الفكرة في بحر أفكارهم تتهادى.. فكرة لفتت انتباه الشيطان اليهودي.. فكرة قالها مارتن لوثر" مبتدع المذهب البروتستانتي كله.. الرجل القسيس الذي كره سلطة البابا شبه الإلهية.. كره بيع صكوك الغفران التي تضمن للناس حفظًا من النار وفدادين في الجنة.. كره عدة أمور أخرى وعارضها بعلنية وحماسة شديدة.. وفي مذهبه هذا كان يتقرب لليهود ويعارض اضطهادهم وطردهم من البلاد ومعاملتهم على أنهم المذنبون الأبديون قاتلو المسيح. 

" دعكم من الإنجيل لأنه محرَّف.. إن الكتاب الصحيح الوحيد هو التوراة اليهودية ولا شيء غيرها.. وبالنسبة للتلمود فلا يجب علينا أن نحرقه بكل هذه القسوة" 
مارتن لوثر

فكرة أخرى أمسكها بيده وصار ينظر إليها بتمعن.. فكرة وضعت التوراة اليهودية مكان الإنجيل في هذا المذهب المسيحي الجديد.. اتهمه المسيحيون التقليديون الكاثوليك بأنه يهودي متخفٍّ.. بعد فترة تغيرت أفكار هذا الرجل لتنتج شيئًا غريبًا نوعًا ما. 
_247_

"اليهود كائنات يجب التخلص منها فورًا.. ديدان مقززة وخبثاء وملعونون إلى الأبد.. يجب أن نسلب منهم جميع كتبهم ونحرقها.. لابد أن نطردهم جميعًا من بلادنا" 
مارتن لوثر

نظر "ماستيم إلى الفكرة بتعجب.. ألم يكن الرجل منذ قليل محِبًّا لليهود متقرّبًا إليهم ؟.. وبينما "ماستيم" يفكر إذا ناداه الأفعى "سيربنت" نداء فهم منه أنه رغم أن أفكار هذا الرجل أصبحت معارضة لليهود إلا أنها كانت صهيونية في نفس الوقت.. بدأ "ماستيم" يسبح باحثًا عن تلك الأفكار الصهيونية في بحر العقلية البروتستانتية.. حتى وجدها مكتوبة بخ ط أحمر مشع وسط كل الأفكار الأخرى. 

"علينا ألا نعيق ذهاب اليهود إلى فلسطين.. بل إن علينا أن نعطيهم كل ما يحتاجون إليه في رحلتهم تلك.. لأنه لما يقدر اليهود أن يقيموا لأنفسهم دولة في فلسطين سينزل المسيح عيسى ليخلص العالم من الشر" 
مارتن لوثر

إن هذا الفكر هو الولادة الحقيقية للصهيونية.. فقد خرج قبل أن يُولَد "هرتزل".. بل حتى قبل أن يولد "ساباتاي زيفي".. ترك "ماستيم أفكار "مارتن لوثر وبحث عن أفكار لمصلح بروتستانتي آخر جاء بعده ويدعى "كالفن" 

"الربا ليس حراما بل هو حلال لا شيء فيه" 
كالفن

_248_

هذه الفكرة ساهمت في تسهيل جميع معاملات اليهود المالية وسيطرتهم الاقتصادية على جميع البلاد الأوروبية.. كان "كالفن" هذا يدعو بحماسٍ لأفكار "مارتن لوثر".. وأفكاره تلك فرقت بين الكنيسة والشعب في إنجلترا مما أدى لاشتعال النار في الثورة الإنجليزية التي شاهدناها على الشاشة مع "سيربنت" من قبل. 

ترك الشيطان" ماستيم بحر الأفكار البروتستانتية وطار خارجًا منه إلى سماء أوروبا التي شهدت حروبًا دينية بين أتباع المذهب البروتستانتي وأتباع المذهب القديم الكاثوليكي.. حروب دينية راح ضحيتها الكثير.. وانقسمت بلاد أوروبا دينيًّا فصار منها ما هو كاثوليكي بحت مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.. ومنها ما هو بروتستانتي مثل ألمانيا وإنجلترا. 

نظر "ماستيم" خلال هذه الحرب إلى البروتستانت وهم يهاجرون من إنجلترا عبر المحيط إلى أمريكا.. وظنوا أنفسهم في هجرتهم هذه كأنهم يعيدون مشهد الخروج المقدس.. أيام خرج اليهود من مصر بعد أن استعبدهم فرعون.. فشقَّ بهم موسى البحر وأوصلهم إلى أرض صحراء هي أرض سيناء أو أرض التيه.. أما البروتستانت فقد هربوا من اضطهادهم في أوروبا إلى أرض تيه جديدة هي أرض أمريكا.. وقد أعجبتهم تلك الأرض وصاروا أغلبية ساحقة فيها وبالتالي صار المذهب البروتستانتي هو المذهب الغالب في أمريكا. 

لم يكن "ماستيم" يفهم ما الذي يعنيه ذلك وقتها.. كل ما أصبح يعلمه هو أن البروتستانت هؤلاء قد صاروا أغلبية في العالم.. وأنهم موالون ومعينون ومناصرون لعودة اليهود إلى فلسطين.. وأكبر الدول المناصرة ستكون بالتالي هي إنجلترا وأمريكا.. لم يكن يدرك جيدًا ما الذي يعنيه هذا وهو يطير فوق المسجد الأقصى.. لكن الزمن كان كفيلًا بإفهامه.. كان اليهود الآن قد بدأوا يهاجرون إلى فلسطين ألفًا وراء ألف بعد أن حكمت جمعية الاتحاد والترقي عرش الدولة العثمانية.. 
_249_

وهاهو "سيربنت" يزحف على بلاط مسجد قبة الصخرة في هدوء ولسانه المشقوق يخرج من بين أنيابه مهتزًّا في نهم لشيء ما.. كان يبدو أن الأفعى "سيربنت" قد وصل لمحطته الأخيرة.. وأنه سينجزها بنجاح كما أنجز كل المراحل التي سبقتها. 

بعد وفاة "هرتزل" أصبح "ماستيم" يطير فوق رجل آخر.. خليفة "هرتزل" في زعامة الصهيونية.. "حاييم وايزمان".. عالم كيميائي يهودي.. أوفده اللورد "روتشيلد" ليزور فلسطين أثناء هجرة اليهود إليها.. فعل هذا الرجل أفاعيل خبيثة أعجبت "ماستيم" جدًّا.. في البداية أسس شركة تطوير أراضي في يافا.. هدقها شراء الأراضي من الفلسطينيين بطريقة منظمة.. كانت أكبر صفقة عقدها هي شراء أرضٍ واسعة جدًّا جدًّا كانت مملوكة لعائلة لبنانية مقيمة في أوروبا.. وبدأ "وايزمان" يبني مستعمرات يهودية على الأراضي التي نجح في شرائها.. ثم أنشأ جماعة مسلّحة تدعي حرس الهاشومير.. يهود مسلحين لهم هيئة غريبة نوعًا ما.. يرتدون الغترة البيضاء العربية على رؤوسهم.. وعلى صدورهم حزامان سوداوان متقاطعان.. كان هؤلاء الحرس يحرسون المستعمرات اليهودية.. وبدأ "وايزمان" في إخراج مظاهرات في فلسطين للاعتراف باللغة العبرية.. وبينما "ماستيم" يطير في شوارع فلسطين.. إذ به يرى جريدة مفتوحة ملقاة على جانب الطريق.. نظر إليها.. كان اسمها الكرامل.. وكان المانشيت الرئيسي في الصفحة تحذير لجميع العرب من قيام الدولة اليهودية.. لأنها ستكون خنجرًا سامًا في خاصرة العرب.. ابتسم "ماستيم" ابتسامة باهتة ثم غادر المكان طائرًا إلى مكان آخر. 

فجأة اهتزت أجواء العالم أجمع.. الحرب العالمية الأولى.. تحالفت بريطانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا ضد دولة واحدة هي ألمانيا.. لم تكن الدولة العثمانية لها أي علاقة بتلك الحرب الأوروبية من قريب أو من بعيد لكن جماعة الاتحاد والترقي أقنعوا الخليفة الصوري أن يدخل في الحرب إلى جانب ألمانيا.. وبالفعل هذا ما حدث.. واشتد اهتزاز الأجواء واشتد تطاير عباءة "ماستيم" وهو ينظر إلى خسائر الدولة العثمانية المتتالية في تلك الحرب.. 
_250_

سقطت من بين أيدي المسلمين دول كثيرة مثل البلقان وصربيا وبلغاريا واليونان والجبل الأسود والقوقاز.. ولم تعد أي دولة عربية موالية للدولة العثمانية حقيقة وإنما صرخت بين العرب أصوات تنادي بالاستقلال عن ذلك الكيان التركي المغرور الضعيف.. لم تكن الدولة العثمانية بخير.. لم تكن بخير أبدًا. 

كان حقًّا على "ماستيم" أن يقهقه ساخرًا وهو يشاهد أخيرًا قيام ما أُطلِق عليه لقب الثورة العربية الكبرى.. لم تنطلق في أي وقت.. بل اشتعلت في خضم انشغال الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى.. كان "ماستيم" متحمسًا جدًا.. طار إلى قلب الحدث مباشرة.. كان ملك الحجاز وشريف مكة الذي يدعى "الشريف حسين" يراسل السفير البريطاني في مصر والذي يدعى "مكماهون".. كان البريطاني يريد من العرب أن يدخلوا في الحرب العالمية الأولى مع بريطانيا ضد الدولة العثمانية.. على وعدٍ من بريطانيا أن تعترف بدولة عربية كبيرة تضم الجزيرة العربية كاملة والشام والعراق.. ويكون "الشريف حسين" هو الخليفة الأعظم لهذه الدولة.. شرط ألا تضم تلك الدولة لبنان ولا تضم فلسطين.. ووافق الشريف "حسين" واشتعلت النار. 

وبينما كانت الدولة العثمانية تقاتل الروس والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين من جميع الجهات.. إذ أتاها خنجر طعنها في ظهرها طعنة نجلاء.. خنجر عربي مكتوب على نصله "الشريف حسين".. وصفق "ماستيم" بيديه المخيفتين لهذه الطعنة الرائعة. 

ترك "ماستيم" أجواء الثورة العربية الكبرى إلى أجواء أخرى.. اجتماع سري بين إنجلترا وفرنسا.. اتفاقية ذات اسم شهير "سايكس بيكو".. يرأسها من الجانب الإنجليزي "سايكس" مندوب بريطانيا لشؤون الشرق الأدنى ومن الجانب الفرنسي "بيكو" قنصل فرنسا السابق في بيروت.. اتفقا على أن تتوزع الكعكة العثمانية عليهما.. أعني تتوزع الدول العربية عليهما بعد سقوط الدولة العثمانية..
_251_

فتأخذ بريطانيا العراق والأردن.. وتأخذ فرنسا سوريا ولبنان أما فلسطين فتبقى تحت سيطرة مشتركة للحلفاء.. ووبهذا كانت بريطانيا وفرنسا يريدان أن يأكلا قطع الكعكة العثمانية.. رغم أنهما وعدا أن يُعطيا تلك القطع "للشريف حسين".. لكن "ماستيم" كان يتساءل عن حظ اليهود في تلك الكعكة اللذيذة.. كان يتساءل عن فلسطين. 

فجأة فتح "الشريف حسين" جريدة الصباح ليجد أخبار تلك الاتفاقية السرية بين بريطانيا وفرنسا.. رغم أنها سرية إلا أن الروس سرّبوا أخبارها إلى الجرائد.. وضجّ ملك الحجاز وأرغى وأزبد.. لكن حديثًا واحدًا من البريطانيين طمأنه.. قالوا له ألا يصدق كلام الجرائد لأنه كلام جرائد.. ولم تحدث أي اتفاقيات ونحن على وعدنا الأول واتفاقيتنا.. فاطمأن لذلك واستراح ونام يحلم بأن يكون ملك العرب. 

كان "ماستيم" يطير مطمئنًا على أحوال اليهود في فلسطين.. كانوا لا يزالون يشترون الأراضي ويبنون المستعمرات.. أخيرًا أيها اليهود بدأتم تمتلكون جزءًا من فلسطين.. بعد أن شردكم الزمان وأذلّكم أهل المكان.. سمع "ماستيم" أصداء حفل يقام في بريطانيا.. حفل عظيم.. طار في ثوانٍ إلى الحفل.. كان اليهود يحتفلون.. بماذا تراهم يحتفلون.. إنه يرى أكبر حكماء صهيون هنا.. "حاييم وايزمان" و"سايكس" واللورد "روتشيلد" وغيرهم الكثير.. كانوا يحتفلون بحدثٍ جلل.. فقبل أيام أصدرت بريطانيا وعدًا.. وعدًا لليهود بأن تقيم لهم دولة مستقلة في فلسطين.. وعدًا يدعى "بلفور".. والتقت كؤوس الخمر وأكف اليهود وابتساماتهم.. وظللت عليهم عباءة "ماستيم" المتطايرة وقناعه الذي تحول في تلك اللحظة إلى مزيج عجيب من السعادة والإرعاب. 

لم يكن وعدًا رسميا.. إنما كان رسالة من وزير الخارجية البريطاني "بلفور" إلى اللورد "روتشيلد".. رسالة كان "ماستيم" يتوق شوقًا لقراءة نصّها.. فطار إلى حيث الرسالة الرسمية وفتحها يقرأها بتركيز.. كانت كالتالي.. 
_252_

وزارة الخارجية 

في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917 

عزيزي اللورد روتشيلد 

يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة ملك بريطانيا التصريح التالي.. والذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية.. وقد عُرض على الوزارة وأقرته : 

" إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي.. وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.. على أن يُفهم جليًّا بأنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين.. ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلدٍ آخر ". 

وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علمًا بهذا التصريح . 

المُخلص
آرثر جيمس بلفور


أن تعطِي أرضًا لا تملكها إلى شعب لا يستحقها.. كان هذا هو الوعد باختصار.. بعد أسابيع فتح "ماستيم" رسالة أخرى سرية.. مقدمة من أول صهيوني يصل لمنصب وزير في بريطانيا يرسلها إلى مجلس الوزراء البريطاني.. "الوقت الحاضر ليس مناسبًا لإنشاء دولة يهودية مستقلة.. لذا يجب أن توضع فلسطين بعد الحرب مباشرة تحت السيطرة البريطانية.. لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة. وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي" 
_253_

كانت رسالة حكيمة.. وقد تم تنفيذها بحذافيرها.. طلبت بريطانيا من فرنسا تعديل اتفاقية "سايكس بيكو".. وأن تعطي فلسطين لبريطانيا بدلا من أن تكون تحت سيطرة دولية.. وتم التعديل.. وبدأت بريطانيا تُعد جنودها لاحتلال فلسطين عسكريا.. كان الجيش العثماني في فلسطين قوامه حوالي مئة ألف رجل يرأسه رجل من جماعة الاتحاد والترقي.. رجل يدعى "مصطفى كمال أتاتورك".. وقد جاءته الأوامر من قيادة الاتحاد والترقي بأن ينسحب مع كل جنوده من فلسطين ويُخليها تمامًا.. وهذا ما فعل "أتاتورك".. انسحب بمئة ألف رجلٍ من فلسطين.. وهاهو "ماستيم" يحلق في الهواء ناظرًا إلى مشهد لم يره منذ سبعة قرون. 

جيش بريطاني لا تدرك نهايته بعينك البشرية.. كأنه حزام طويل من الجنود يمتد من الأفق إلى أرض فلسطين.. قائد هذا الحزام من البشر كان يدعى الجنرال "أللينبي".. ومن ضمن هذا الجيش كان هناك فيلق يهودي مدرَّب على أعلى مستوى.. بينه وجوه خبيثة لم يتعرف عليها "ماستيم" في البداية لكن التاريخ يحفظ أسماءهم جيدًا.. كان من ضمن الوجوه في الفيلق اليهودي رجلٌ غزا الصلع رأسه من المنتصف فترك جزيرتين من الشعر على الجانبين.. رجل يعرفه التاريخ باسم "دافيد بن غوريون".. ورجل آخر هو "نحميا رابين".. والد "إسحق رابين".. وآخرون ممن سيكون لهم شأن فيما بعد.. كان الجنرال "اللينبي" يدخل مزهوًا وسط أهالي فلسطين الذين لا يدرون أين ذهب جيش الدولة العثمانية بالضبط.. لكنهم كانوا سعداء بالبريطانيين مرحبين بهم.. فبالنسبة لهم كان البريطانيون هم الملائكة الذين أتوا من بلادهم ليساعدوا فلسطين على الاستقلال عن الدولة العثمانية التركية المغرورة.. لم تكن هذه فكرة عامة الشعب فقط.. وإنما كانت فكرة الشيوخ والمفكرين وحتى المفتي العام لفلسطين.. سمع "ماستيم" الجنرال "أللينبي" وهو ينظر إلى تلك الأجواء قائلًا: 

- اليوم انتهت الحروب الصليبية . 
_254_

لم يكن الشيطان الأفعى "سيربنت" موجودًا.. لقد ترك فلسطين فجأة واتجه إلى روسيا.. كانت الحكومة القيصرية الروسية تضطهد اليهود اضطهادًا شديدًا.. وذات مرة ذهب مندوب يهودي إلى وزير المالية الروسي وعرض عليه أن يتخلص من كل اليهود الذين في بلاده بإرسالهم إلى فلسطين.. حينها قال له الروسي : 

- إني أفضِّل أن أتخلص من اليهود فعلًا.. ولكن ليس بإرسالهم إلى فلسطين.. وإنما بإغراقهم في البحر الأسود. 

كان لابد من تهجير ذلك العدد الضخم من اليهود في روسيا إلى فلسطين بأي طريقة من الطرق.. فدار "سيربنت" في أنحاء روسيا حتى أقام ثورة رهيبة.. ثورة لو أردنا سرد وقائعها لاحتجنا إلى كتابٍ منفصل.. خبث ودهاء أوصل اليهود إلى حكم روسيا بعد أن كانوا مضهَديها.. خبث لم تعرفه الأرض إلا في أماكن زحف الأفعى اليهودية "سيربنت".. قامت الثورة الروسية وحكمت الشيوعية روسيا.. وكانت الحكومة الجديدة أغلبها يهود.. وأول قرار اتخذوه هو إرسال اليهود إلى أرض الميعاد.. إلى فلسطين. 

ضجَّ الشريف حسين وأرغى وأزبد.. ولكن بريطانيا حدثته وهدأته ونومته على سريره الوثير.. فأعطت لابنه حُكم العراق.. وأعطت لابنه الآخر حُكم الأردن.. بدأ "ماستيم" يراقب حياة اليهود في فلسطين بعد احتلال بريطانيا.. أصبحت اللغة العِبرية لغة رسمية.. أصبح لهم محطات كهرباء مخصوصة لهم.. أصبحت لهم وزارة للمياه ووزارة للأشغال.. ودخل الاقتصاديون اليهود ولعبوا ألاعيبهم وفتحوا شركاتهم وأصبحوا يشغلون الفلسطينيين فيها.. ولكن بعد الهجرة الكبيرة لليهود من روسيا بدأ الأهالي يضجون ويشعرون بالخطر.. وبدأت ملامح توحي بالخطورة ترتسم على قناع "ماستيم". 

على الجانب الآخر تم افتعال حرب زائفة بين الدولة العثمانية واليونان وتم صناعة بطل زائف في الجرائد والمجلات. "مصطفى كمال أتاتورك".. بطل مدحه "أحمد شوقي" قائلًا.. 

الله أكبر كم في الفتح من عجب.. يا خالد الترك جدد خالد العرب 
_255_

وسمح التهليل والتطبيل في الجرائد والمجلات لهذا البطل الزائف أن يعلن نفسه ذات يوم رئيسًا لدولة تركيا.. ويعلن سقوط الخلافة العثمانية إلى الأبد.. وفور أن تسلَّم حُكم تركيا اندهش "ماستيم" من كم الأمور العجيبة التي قام بها.. نفى كلمة إسلام تمامًا من دستور تركيا.. ونص أنها دولة علمانية لا دين لها.. حرَّم لبس الحجاب على النساء.. ألغى الاحتفال بالعيدين.. منع المسلمين من أداء فريضة الحج لسنوات.. أغلق عددًا ضخمًا من المساجد.. حول مسجد أيا صوفيا العظيم إلى كنيسة.. منع الأذان باللغة العربية وجعله باللغة التركية.. ألغى منصب المفتي.. أعدم 150 عالمًا مسلمًا اعترضوا على هذه القوانين.. أجبر أئمة المساجد على ارتداء القبعة الأوروبية بدلًا من العمامة الإسلامية.. ألغى التقويم الهجري تمامًا.. ساوى بين الذكر والأنثى في الميراث.. ألغى من اسمه كلمة مصطفى واكتفى بكلمة أتاتورك.. وفي النهاية أوصى عند موته بألا يُصلَّى عليه.. ورغم أن هذه الأمور كلها أسعدت روح "ماستيم".. إلا أن الاندهاش لم يستطع أن يفارق قناعه لمدة طويلة لكنه زال لما أوحى إليه "سيربنت" أن أتاتورك قد ربته حاضنة يهودية. 

ألف "أحمد شوقي" قصيدة طويلة ينعي فيها تركيا وينعي سقوط الخلافة ويهاجم أتاتورك قائلًا: 

بكت الصلاة وتلك فتنة عابث.. بالشرع عربيد القضاء وقاح 

أفدى خزعبلة وقال ضلالة.. وأتى بكُفرٍ في البلاد بواح لا يمكنك أن تخدع كل الناس كل الوقت.. خرج مفتي فلسطين وكل المفكرين الذين كانوا مؤيدين للاحتلال البريطاني لفلسطين في مظاهرات حاشدة سلمية عديدة معارضين.. لكن "ماستيم" كان يطير فوق مظاهرة أخرى.. مظاهرة حاشدة قام بها اليهود عند حائط البُراق للمطالبة ببناء الهيكل المزعوم.. منشدين نشيد الأمل.. أو كما يقولون "الهاتيكفا".. 
_256_

طالما في القلب تكمن 

نفس يهودية تتوق 

وللأمام نمو الشرق 

عين تنظر إلى صهيون 

أملنا لم يضع بعد 

أمل عمره ألفا سنة 

أن نكون أمة حرة في بلادنا 

بلاد صهيون وأورشليم القدس 

وبعد صلاة الجمعة التي تلت ذلك اليوم.. كان "ماستيم" طائرًا شاهدًا لحدثٍ رهيب أمام المسجد الأقصى.. جمهرة من المسلمين تصارعت من جمهرة مماثلة من اليهود.. وتدخَّل الجيش البريطاني بين الجمهرتين.. وكان تدخُّله إطلاق النار على المسلمين العزل الذين سالت دماؤهم في ساحة المسجد الأقصى.. وتحول قناع "ماستيم" إلى منظر بشع مخيف.. وطار فوق الجميع طيرانا يؤذن بكارثة. 

قامت ثورة كبيرة كانت بداية لجميع أحداث العنف التي تلتها.. ثورة البراق.. حطم الفلسطينيون ست مستعمرات يهودية تدميرًا كاملًا.. وامتدت الثورة كالسرطان إلى كافة المدن الفلسطينية بلا استثناء.. كانت الصحف العالمية كلها تعرض خبر الفلسطينيين الجزارين الإرهابيين الذين ارتكبوا أبشع الجرائم في حق إخوانهم اليهود المسالمين.. تم اعتقال تسعمائة فلسطيني.. أعدم أهم ثلاثة منهم.. واستمرت الثورة عامًا كاملًا.. وبعدها تم تخفيف الهجرة اليهودية.. واعتبار حائط البراق ملكية إسلامية كاملة لا علاقة لليهود بها. 
_257_

إن حائط البراق هذا هو ما يُدعى هذه الأيام حائط المبكى والذي يعتبر اليوم ملكية يهودية خالصة لا علاقة للمسلمين بها.. وهو الحائط الذي يحد المسجد الأقصى من الجهة الغربية.. وهو الحائط الذي ربط النبي "محمد" فيه فرسه البراق بحلقة قبل أن يدخل إلى المسجد ويصلي بالأنبياء قبل أن يُعرج به إلى السماء.. أما اليهود فيعتبرونه الحائط الوحيد المتبقى من الهيكل.. ويبكون عنده حسرة على خراب الهيكل. 

كان يبدو أن الثورة قد هدأت نوعًا ما بعد أعمال القمع الرهيبة التي كان الجيش البريطاني يجيدها ويحبها ويستمتع بها.. وكان "ماستيم" يحلق فوق مكان عجيب.. مسجد من مساجد حيفا.. وكان يمكنك أن تسمع صوت الخطيب عاليًا يدوي في القلوب: 

- قال ربكم العظيم.. "ألا تقاتلون قومًا نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة.. أتخشونهم.. فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين" 

و أعاد الجملة الأخيرة ثلاث مرات.. كان صوته متهدجًا دافئًا متحمّسًا حزينًا حقيقيًّا.. ثم قال لهم:

- يا أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالمًا بها.. وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.. فإلى الجهاد أيها المسلمون. 

ضج المسجد بالبكاء والتأثر.. كان هذا هو "عز الدين القسام".. أزهري من أهل سوريا قاد الناس في بلده سوريا ضد الاحتلال الفرنسي.. ثم سافر إلى فلسطين ليقود الناس ضد الاحتلال البريطاني.. بعد ساعة من تلك الخطبة بدأت السلطة تبحث عنه بحثها عن الإرهابيين.. لكنه في تلك اللحظة كان قد حمل بندقيته وذهب إلى الجبال.. طار "ماستيم" فوق تلك الجبال ليشاهد "عز الدين القسام" 
_258_

ومعه نفر من أصحابه يقاتلون الجنود الإنجليز الذين كشفوا مخبأهم في الجبال.. كان هناك رجال من الشرطة العربية يقفون في جانب الانجليز.. صاح قائدهم : 

- أنت محاصر يا "عز الدين".. عليك أن تستسلم فلا قِبَل لك بهم.. لاقبل لك بالإنجليز 

-رد عليه "عز الدين" : 

- بل نحن في مقام لم تعرفه بعد.. نحن في مقام الجهاد.. ومن خرج في هذا المقام لا يصح أن يستسلم إلا لله. 

كان "ماستيم" يتابع تبادل إطلاق النار في شغف بين الجانبين في الجبال.. لكنه بدأ يتململ.. طالت المعركة لأكثر من ساعتين.. وفجأة غزت الجو طائرات إنجليزية.. طائرات قصفت جانب المجاهدين بقذائف إنجليزية خرجت لها أرواح المجاهدين كلهم.. وخرجت لها روح "عز الدين القسام".. الرجل الذي أشعل لموته ثورة أكبر من ثورة البراق.. ثورة فلسطين الكبرى.. وبدأ قناع "ماستيم" المرعب يتشقق بطريقة عجيبة.. وتخرج من بين تشققاته أدخنة سوداء. 

لم تكن ثورة فقط.. بل كانت ثورة وإضرابًا.. وربما تكون تلك أشد ثورة في تاريخ فلسطين.. ثورة قمعتها القوات الإنجليزية بكل الطرق حتى وصلت إلى قصف المنازل وتفجيرها لاشتباه وجود ثوار فيها.. استمرت الثورة ثلاث سنوات كاملة نُفذت فيها حوالي عشرة آلاف عملية فدائية.. بمعدل تسع عمليات فدائية في اليوم.. وأصبحت التشققات في قناع "ماستيم" تتزايد.. كان يطير فوق أحد المساجد أثناء صلاة العيد.. وفور انتهائها وخروج الناس إذ هجمت عليهم القوات الإنجليزية واعتقلت نفرًا كثيرًا منهم.. تابعهم "ماستيم" حتى انتهى الإنجليز بهم إلى أماكن مغلقة يسمونها Concentration Camps .. وضعوهم بداخلها وأغلقوها عليهم لثلاثة أيام متواصلة.. كان "ماستيم" يشاهدهم وهم يبولون على أنفسهم لعدم وجود مكان يبولون فيه.. ويتلوى بعضهم على الأرض من الجوع والعطش.. ويبكون حالهم وذُلّهم وقهرهم.. وملامح وجه "ماستيم" تبرز أعتى معاني الشماتة والكراهية. 
_259_

شعر "ماستيم" بأن أجواء العالم كله تهتز بعنف.. تذكر اهتزازا كهذا منذ مدة ليست بعيدة.. لكن الاهتزاز هذه المرة كان عنيفًا جدًّا.. الحرب العالمية الثانية.. لازال الحلفاء حلفاء.. بريطانيا وفرنسا وروسيا.. لكن انضمت لهم أمريكا هذه المرة.. المعسكر الثاني ألمانيا.. وانضمت لها اليابان.. كانت أكبر معركة في تاريخ الأرض.. معركة مات فيها 50 مليون إنسان.. ما أهم"ماستيم" في تلك الحرب هو أنه نزحت من ألمانيا وأوروبا دفعات هائلة جدًّا من اليهود.. دفعات توجهت كلها ناحية فلسطين.. دفعات ادعت أنها هاربة من طغيان "هتلر" الذي يقيم المذابح والمحارق لإبادة اليهود عن وجه الأرض كلها.. وتدفقت هذه الدفعات على سفن هائلة الحجم لترسو على موانىء فلسطين.. ودخل هؤلاء متوقعين أن يحظى كل واحد منهم بمسكن ومأكل ومشرب.. وإن توقعاتهم كلها كانت صحيحة.. صحيحة جدًّا. 

قبل الحرب العالمية الثانية كانت الهيئة التي تجتمع فيها جميع الدول تدعى "عصبة الأمم".. وهي الهيئة التي أعطت إلى بريطانيا صك الانتداب لدخول فلسطين واحتلالها.. وبعد الحرب العالمية الثانية صار اسمها "الأمم المتحدة".. وقررت الأمم المتحدة حتى تحل أزمة ثورة فلسطين هذه أن تكون فلسطين تحت حُكم الأمم المتحدة.. فلا هي لليهود ولا هي للعرب.. ضج اليهود وثاروا في وجه الأمم المتحدة فتراجعت عن قرارها إلى التفكير في قرار آخر.. أن تقسم فلسطين إلى دولتين.. واحدة عربية والأخرى يهودية.. وأن تُعجل بعد تنفيذ هذا القرار بإخراج البريطانيين من فلسطين. 

في تلك الأثناء كان اليهود لديهم فرق عسكرية كثيرة.. كان لديهم فرقة الإيرجون.. وفرقة الشتيرن.. وفرقة الهاجانا.. وفرقة البالماخ.. كلها فرق عسكرية مسلحة تسليحًا ثقيلًا جدًّا ومدربة تدريبًا عاليًا جدًّا.. 
_260_

ورغم أن هذه الفرق كلها كانت تساعد البريطانيين على قمع الثورة الفلسطينية.. إلا أنها وبعد أن خرج قرار التعجيل بإخراج البريطانيين وقرار التمهيد لتقسيم فلسطين.. قررت أن تقوم بعمليات إرهابية ضد البريطانيين.. لتُعجل بإخراجهم من البلاد.. وبالفعل قامت عمليات إرهابية شهيرة ضد أعضاء الجيش البريطاني.. تفجيرات واغتيالات ونسف وقتل.. حتى تم القبض على قائد فرقة الإيرجون الذي يدعى "مناحم بيجن" واعتبروه إرهابيًّا.. ما أضحك "ماستيم "هو أن هذا الرجل نفسه الذي دخل السجن الآن باعتباره إرهابيًّا.. بعد مرور ثلاثين عامًا حصل الرجل على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الرئيس المصري "أنور السادات". 

أوعزت بريطانيا إلى رئيس وزراء مصر "مصطفى النحاس" بإنشاء هيئة تدعى جامعة الدول العربية.. تضم كل الدول العربية وتعبِّر عن رأيها.. شرط ألا تضم فلسطين إليها.. واجتمع العرب في هيئة جامعة واحدة.. وسلخوا منهم فلسطين.. كان "ماستيم" يفكر قليلًا.. لقد ضمت تلك الجامعة سبع دول.. ست منها تحت الاحتلال الإنجليزي.. أي أنه لا فائدة حقيقية منها إلا تمرير ما تريده بريطانيا باسم العرب.. وضحك "ماستيم" مجددًا. 

طار "ماستيم" ذو القناع المتشقق فجأة إلى مقر الأمم المتحدة.. كان هناك اجتماع في غاية الأهمية.. دخل "ماستيم" إلى الاجتماع والمتحدث اليهودي يقول : 

- حين نتكلم عن دولة يهودية.. فليس في مخيلتنا أي دولة عنصرية أو متعصبة لدين.. بل دولة تقوم على أساس المساواة الكاملة في الحقوق لكل سكانها.. دون تمييز في الدين والعرق.. وبدون سيطرة أو إخضاع. 

بعد أن كان اليهود يملكون 5 % فقط من أرض فلسطين.. إلا أنهم ملكوا بعد هذا الاجتماع نصف أرض فلسطين.. كان هذا الاجتماع هو الاجتماع الذي أعلن قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين.. النصف للعرب.. والنصف لليهود.. 
_261_

والقدس لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. بل هي منطقة دولية.. ويجب على كل الفلسطينيين الساكنين في القسم المعطى لليهود أن يغادروا مساكنهم فورًا إلى القسم الفلسطيني.. وقررت اللجنة خروج البريطانيين من البلاد في 15 مايو 1948 .. أي بعد ستة أشهر. 

وبدأ ترحيل الفلسطينيين من الأراضي المقسومة لليهود حسب القرار.. وبدأ "ماستيم" يطير فوق القرى ليتابع أحداث الترحيل.. دخلت قوات الهاجانا إلى قرية القسطل.. أهم القرى الحامية للقدس.. دخلتها وطردت منها جميع أهلها.. ولفت نظر "ماستيم" فرقة من المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يبدون منظمين ومسلّحين.. كانت هذه الفرقة هي جيش الجهاد المقدس.. وقد تكون هذا الجيش بعد أن اجتمع الفلسطينيون في كافة أنحاء البلاد وقرروا توحيد صفوفهم المقاوِمة في جيش واحد.. وكان قائد هذا الجيش رجل فلسطيني مجاهد صنديد يدعى "عبد القادر الحسيني".. وقد رآه "ماستيم" يتصدر المجاهدين الداخلين إلى القسطل. 

حدث بين هذا الرجل وبين جامعة الدول العربية حوار تاريخي.. كان فيه: 

- أنا ذاهب لتحرير القسطل.. وسأقتحمها وأحررها ولو كان في هذا موتي.. ونريد منكم تزويدنا بالسلاح المخزَّن لديكم. 

- لقد عهدنا بموضوع فلسطين إلى لجنة عسكرية خاصة ستهتم بالأمر بعد خروج البريطانيين منها في 15 مايو. 

- لو أنكم انتظرتم حتى 15 مايو ستحتاجون إلى عشر أضعاف ما ستحتاجونه الآن. 

- نحن لا ندعم العمليات الفردية. 

- نحن أحق بالسلاح المخزَّن من تلك المزابل التي تخزنوه فيها.. إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين وتذكروا أن التاريخ لا يرحم أحدًا.. وأنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم. 
_262_

- كفاك كلامًا سخيفًا.. نحن لدينا العتاد والسلاح لكننا لن نعطيه لك.. وإنما سننتظر 15 مايو. 

رمى "عبد القادر الحسيني" في وجوههم دبارة كانت في يده وقال : 

- أنتم تخونون فلسطين.. أنتم تريدون قتلنا وذبحنا. 

رآه "ماستيم" يدخل إلى القسطل ومعه نفر من جنوده.. وتمت محاصرته من قبل جيش الهاجانا حصارًا شديدًا.. ووجدت في آخر اليوم جثته ملقاة بجانب أحد المنازل في القسطل.. طار "ماستيم" فوق جثته ونظر له نظرة هازئة.. وسقطت من قناع "ماستيم" قطعة من الذقن.. لتكشف وراءها ظُلمة شيطانية لا تتبين معالمها جيدًا. 

في فجر اليوم التالي كان "ماستيم" يطير فوق قرية مجاورة لقرية القسطل.. قرية تدعى دير ياسين.. وفجأة هجمت عليها قوات الإيرجون والشتيرن من ثلاثة جهات.. في البداية استخدموا مكبّرات الصوت والكشافات.. كانوا يطلبون من جميع السكان إخلاء القرية فورًا.. فوجئوا بإطلاق نار من بين مساكن القرية.. طار "ماستيم" إلى حيث مصدر الطلقات فوجد شباب القرية قد اجتمعوا وتسلّحوا ووقفوا أمام مساكنهم يحمونها بأرواحهم.. لكن طلقاتهم هذه استفزت العصابات اليهودية التي تخلت عن الكشافات وتخلت عن الميكروفونات وأمسكت بالمدافع الرشاشة وهجمت على القرية في أعداد كثيرة كأنها النمل. 

ارتكب اليهود في دير ياسين أبشع شيء تم ارتكابه منذ أن دخلوا إلى فلسطين أول مرة.. وكان قائدهم هو "مناحم بيجن".. تابعهم "ماستيم" الذي توسعت تشققات "قناعه الأبيض حتى كاد أن يسقط من على وجهه.. رأى "ماستيم" الجنود يطلقون أحزمة النار من مدافعهم الرشاشة فتحصد أجسادًا وراءها أجساد.. تحصد أطفالًا وتحصد نساءً.. ورآهم وهم يرمون القنابل إلى داخل المنازل فتنجر فلتقي حولها أشلاء عائلات كلماة كانت تختبيء وراء ذلك الدولاب أو ذاك. 
_263_

رأى جنودًا يمسكون برجل وامرأته فيصفعونه حتى يسقط أرضًا ويبطحون زوجته على الأرض فيقعون عليها كما تقع البهائم وطفلتها الصغيرة لا تدري أتنظر إلى أبيها الذي يلفظ نفسه الأخير أم إلى أمها التي تصرخ وكأن أحدهم سوف يسمع صراخها.. سقط جزءٌ آخر من قناع "ماستيم".. الذي كان لا يزال يتابع تلك المجزرة التي تحدث في هذه القرية في كل شعب من شعابها.. وهاهي العصابات اليهودية قد أوقفت عشرين شابًا من شباب القرية إلى جدار يضعون عليه وجوههم وأكفهم.. ثم أفرغت طلقاتها في أجسادهم فتساقطوا متكومين على بعضهم البعض.. وهاهم يحاصرون فرًان القرية الذي كان قبل الفجر قد أشعل الفرن مجهَّزًا للخبز.. ولما دخلوا القرية بعد الفجر حاصروه في فرنه.. ثم أمسكوا به وألقوا به إلى داخل فرنه ليحترق بالداخل حيًّا.. وهنا سقط قناع "ماستيم" وانكشفت الظلمة التي تختبىء وراءه. 

لم يعد هناك قناع.. كانت رأسه جمجمة شيطانية ذات نظرة ساخرة تميز الجماجم الشيطانية.. وعلى جبينه محفورة نجمة داوود.. وعباءته لازالت تتطاير.. وأصبح له صوت شيطاني صارخ يشبه أكثر ما يشبه أصوات صراخ الديناصورات الكبيرة.. ثم طار إلى مشهدٍ آخر.. رأى فيه مجموعة من اليهود يمسكون بمجموعة من النساء والأطفال فيلقونهم في أحد آبار القرية ويلقون عليهم وقودًا ويشعلون فيه نارًا فتشب النار من فوهة البئر وتلقي بشررها حوله حتى يتراجع الجميع واضعين أذرعهم على وجوههم.. ويبدو "ماستيم" من وراء النار.. شيطان يهودي كما يجب أن تكون الشياطين. 

وانتهت مذبحة دير ياسين بعد ثلاثة أيام.. قُتِلَ فيها ثلث سكان القرية.. وهرب الباقين إلى القرى المجاورة.. وهرب سكان القرى المجاورة لما رأوهم إلى القرى المجاورة.. وهرب أولئك بدورهم.. وأصبح الفلسطينيون يهربون من قراهم خوفًا من العصابات اليهودية.. وترددت صرخة "ماستيم" الشيطانية في الأجواء. 
_264_

كان مشهد الأهالي الفلسطينيين محزنًا جدًّا وهم يغادرون قراهم في طابور طويل بعضهم مشيًا على الأقدام يحملون متاعهم وبعضهم على شاحنات يحملون فوقها أثاثهم وألحفتهم وأمتعتهم.. يسافرون إلى حيث لا يدرون لأنفسهم مسكنًا ولا مأوى.. والأكثر حزنًا أن ترى "ماستيم" وجمجمته الشيطانية الساخرة تنظر إلى هذا كله.. وأظفاره الطويلة تتحرك بالتتالي تعبيرًا عن السعادة الجمة.. فهؤلاء يتركون ديارهم وأرضهم ليعيش فيها يهود.. يهود قدموا من كافة أنحاء العالم.. يهود طردهم كل العالم.. وحُكم على هؤلاء الفلسطينيين وحدهم أن يدفعوا الثمن. 

بدأ اليهود ينظرون إلى يافا.. ويعدون العدة لاقتحامها وطرد أهلها كما فعلوا مع بقية المدن.. وكان من قوَّاد جيش الهاجانا رجل يدعى "موشي ديان".. رجل ذو عصابة سوداء على عينه اليسرى.. وكان يستعد لاقتحام يافا بخطة متميزة.. لكن "ماستيم" ترك هذه الاستعدادات وطار ليشاهد أمرًا لفت نظره.. كانت هناك فتاة فاتنة تجاهد لعبور الأسلاك الشائكة التي تفصل بين المنطقتين العربية والصهيونية.. كان "ماستيم" يتابع تلك الفتاة وهي خارجة من بيتها في مستعمرة بيتام جنوبي يافا.. حيث توجهت متسللة بحرص على ألا يراها أحد حتى وصلت إلى الأسلاك الشائكة الموضوعة بطريقة معقَّدة.. وقد تمكنت بعد عناء من اجتياز الأسلاك بعد أن جرحت ساقها جرحًا بليغًا جدًّا.. وجرت نفسها جرًّا داخلة إلى يافا في وقت يسبق أذان الفجر بحوالي ساعة.. الغريب أنها كانت تمشي وهي تعرف تحديدًا إلى أين تذهب.. ولم يمضِ وقتٌ طويل إلا وهي واقفة أمام أحد المنازل تدق بابها وساقها تنزف من تحتها ولم تعد قادة على حملها. 
_265_

ما لفت نظر "ماستيم" هو أن هذه الفتاة الفاتنة كانت هي "راشيل ديان" ابنة أخ "موشي ديان".. وبدت ملامح جمجمته الشيطانية متوجسة شرًّا.. فُتِح باب المنزل الذي كانت تقف أمامه "راشيل".. لتبدو من داخل المنزل فتاة جميلة أخرى.. ما إن رأت "راشيل" حتى انكبت عليها تحتضنها وتصرخ فيها سائلة عما حلَّ بها.. ثم أدخلتها.. كانت تلك الفتاة الأخرى فتاة فلسطينية تدعى "مهيبة خورشيد".. إحدى الناشطات السياسيات الفلسطينيات.. وكانت قد انعقدت بينها وبين "راشيل" صداقة عجيبة.. فبرغم أن "راشيل" يهودية إلا أنها ترفض الصهيونية رفضًا قاطعًا وترفض توجهاتها.. ويبدو أن قُرب "راشيل" من "موشي ديان" قد جعلها تطلع على خطة الهاجانا لاقتحام يافا.. ويبدو أنها خاطرت بنفسها وجاءت إلى "مهيبة" لتحذرها من هذا الاقتحام حتى يأخذ أهل يافا حذرهم. 

كانت ملامح "ماستيم" تبدو غاضبة جدًّا.. كان يعتبر ما تفعله "راشيل" هو خيانة.. لكن ما فاجأه حقًّا هو ما حدث في اليوم التالي.. أثناء اقتحام العصابات الإسرائيلية ليافا.. نظر "ماستيم" غير مصدق ما يراه بمحجري عينيه العظميتين.. لقد كانت هناك فرقة مسلَّحة.. فرقة مسلَّحة نسائية فلسطينية.. فرقة نسائية ترأسها "مهيبة خورشيد".. التي بدت وكأنها فارسة أسطورية وهي تحمل مدفعًا رشاشًا وتضع على رأسها حجابًا وترتدي ملابس شِبه عسكرية.. ووراءها فرقة نسائية مسلحة. 

نسى "ماستيم" ما يحدث في يافا وظل يتابع تلك الفرقة التي كانت تحارب الهاجانا فعليًّا بكل قوتها.. لكنه أسقط في يده لما رأى "راشيل ديان" تخرج من المنزل ببندقية في يدها وتنقذ إحدى المسلحات من الفرقة في اللحظة الأخيرة.. وأصبحت "راشيل" ومهيبة في الميدان كتفًا إلى كتف.. إحداهما مسلمة.. والأخرى يهودية.. يحاربان قوات صهيون.. ويبدو أنهما قد أبديا بسالة في هذه الحرب أبقتهما على قيد الحياة حتى بعد أن تم احتلال يافا وطرد أهلها.. كانت "راشيل" تخرج من البلدة إلى جانب صاحبتها "مهيبة" وقد وضعت "راشيل حجابًا على رأسها كنوع من التنكر حتى لا يعرفها قومها. 
_266_

وجاء اليوم الذي بدأت القوات البريطانية تخرج في طابور عسكري طويل من فلسطين.. يشابه ذلك الطابور الذي دخلوا به إلى فلسطين أول مرة.. كانوا خارجين منها بعد أن وضعوا شعبًا مكان شعب.. وأعزوا شعبًا وأذلوا شعبًا.. وبعد خروجهم بدقائق فقط كان هناك احتفال صهيوني ما.. وصعد "ديفيد بن غوريون" على المنصة وأخذ يقرأ على الناس بيان قيام دولة إسرائيل.. أو كما يسمونه بيان الاستقلال.. والعجيب أنه لم يكن لهم وجود أصلًا في الدولة حتى يستقلوا عنها.. كان "ماستيم" طائرًا فوق رأس "بن غوريون تمامًا.. وكان يبدو واقفًا في الهواء بشموخ مربعًا يديه في مظهر قوي وعباءته تظلل على كل حاضري الحفل.. وكان يستمع إلى بيان "بن غوريون" وهو يقول: 

"لقد نشأ الشعب اليهودي في أرض فلسطين.. وفيها أقام دولة ذات سيادة.. وقد تم إجلاؤه عنها في ذات يوم مشؤوم.. لكن الشعب اليهودي لم ينسَ وهو في مُهاجره أمل العودة إلى بلاده.. ولهذا بدأ الشعب اليهودي في العودة بالآلاف المؤلَّفة إلى أرض الميعاد.. أرضه التي طُرد منها قديمًا.. وها نحن الآن.. تلبية لنداء المرحوم العظيم تيودور هرتزل صاحب فكرة الدولة اليهودية.. نقف هنا ونعلن استقلالنا بدولة قائمة بذاتها ولغتها وجيشها" 

"إن محرقة هتلر النازية التي حلَّت باليهود في الفترة الأخيرة والتي راح ضحيتها الملايين من يهود أوروبا قد أثبتت للعالم ضرورة حل مشكلة الشعب اليهودي المحروم من الوطن والاستقلال.. ولقد أعلنت الأمم المتحدة قرار إنشاء دولة مستقلة لليهود على هذه الأرض.. واليوم نحن نعلن انتهاء الانتداب البريطاني وبحكم حقنا الطبيعي والتاريخي فنحن اليوم نعلن عن قيام دولة يهودية في أرض إسرائيل.. وأن هذه الدولة اسمها إسرائيل.. وإننا نناشد الأمم المتحدة قبول دولة إسرائيل في أسرة الأمم المتحدة" 

تمَّت 
***


_267_


تحليل القصة 11


يجب أن تتعلم يا صديقي أن اليهود شيءٌ والصهاينة شيءٌ آخر.. بل إن اليهود يؤمنون أن دولة إسرائيل هي تعدي على مهمة المسيح المخلص.. أما الصهيونية فهي سبط واحد من أسباط اليهود.. سبط شرير.. وقد بدأوا أول ما بدأوا مع " هرتزل".. الذي استقى أفكاره من "ساباتاي زيفي".. والصهيونية هي أهم نجاح خرج من عباءة الماسونية.. لأن من يصل للدرجة 33 منها يدخل رسميًا في السبط الثالث عشر لبني إسرائيل.. السبط الشرير.. فلا تظن أن اليهود المنتشرين في العالم مؤيدين للصهيونية.. بل إن بعضهم معارض لها وبشدة.. المشكلة ليست في اليهود العاديين لأنهم يعارضون دولة إسرائيل.. إنما المشكلة هي في أتباع المذهب البروتستانتي الذي يدعم احتلال اليهود لفلسطين.. أنا أتحدث على مستوى الشعوب.. لكن على مستوى الحكام طبعًا فحُكَّام كل الدول الكبرى يدعمون إسرائيل ويباركون خطواتها. 

الماسونية لما جندت الصهيونية لاحتلال فلسطين كانت في الحقيقة تنفّذ حُلمًا مهمًّا من أحلامها.. بناء هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى.. وقد وعدتك في السابق أن أخبرك بالسبب الذي يريدون من أجله بناء الهيكل بهذه الحماسة ويسعون لذلك عبر التاريخ. 

إن كل شيء يعود لوعد في التوراة.. وعد الله اليهود أن ينزل عليهم في آخر الزمان رجلًا من نسلهم.. يخلّصهم من شتاتهم ويحكم العالم كله بالعدل من الأرض المقدسة في فلسطين.. ورغم أن الله حقق وعده لهم وأرسل لهم النبي "عيسى" إلا أنهم كذّبوه.. ولما رأوه يموت على الصليب أمام أعينهم .. أيقنوا أنه ليس هو المسيح المخلص الموعود.. ويهود العالم الآن ينتظرون نهاية الزمان حتى ينزل الله عليهم هذا الرجل المخلص الذي هو ليس عيسى بل واحدًا آخر.. أي أنهم فقط ينتظرون. 
_269_

لكن بعد أن تحالف الإنس والشياطين.. بعد أن أخرج نفر يهود من الإنس (فرسان الهيكل) كتب السحر والعلوم الشيطانية من أسفل الحرم القدسي.. انقلب كل شيء.. وبدأت فكرتهم تتغير.. ليس صحيحًا أن ننتظر المسيح المخلّص بل يجب أن نسعى بكل جهدنا لينزل إلينا.. وهذا السعي هو باحتلال فلسطين احتلالًا كاملًا.. فخرجت الحروب الصيبية وبدأت الحرب الشعواء للوصول إلى فلسطين. 

وبعد أن غيَّر فرسان الهيكل اسمهم إلى الماسونية وانتهت الحروب الصليبية وصارت الدولة العثمانية قوة رهيبة لا يُستهَان بها.. كانت مهمة الماسونية شديدة الصعوبة للوصول إلى فلسطين.. فاليهود أيامها كانوا مضطهدين في كافة أنحاء العالم ومطرودين. 

كانت الخطوة الأولى أن يعود اليهود إلى البلاد التي طُرِدوا منها.. ليس فقط يعودوا.. بل أن يتحكّموا بتلك الدول.. عن طريق المال.. وقد نجحوا في ذلك وأشعلوا ثورات متعددة في أوروبا تنتهي كل دولة بأن تكون عبدة لليهود مديونة لهم.

ثم كانت الخطوة الثانية.. إنشاء دولة أمريكا الكبيرة المليئة بالخيرات.. ورغم أن كل رؤساء أمريكا وزعمائها كانوا ماسونيين إلا أنه كان يلزم أيضًا تحويل عقائد الشعوب لتكون متعاطفة مع اليهود.. وهو ما حدث لما أخرجت الماسونية من عباءتها المذهب البروتستانتي الذي يؤمن بضرورة احتلال اليهود لفلسطين. 

الخطوة الثالثة كانت إسقاط الدولة العثمانية الكبيرة وإدخال اليهود إلى فلسطين ثم عمل لهم دولة فيها.. وهو ما نجحوا فيه نجاحًا منقطع النظير.. فبعد أن امتلك اليهود نصف فلسطين في 1948 .. بدأوا يتوسعون خلال السنين ويغيرون على الأراضي المقسومة للعرب حتى استولوا على 85 % من فلسطين وتركوا للعرب 15 % فقط.. وهذه ال 15 % موزعة على كتلتين متباعدتين كجزيرتين في بحر من اليهود.. إحدى الكتلتين هي كتلة صغيرة تدعى قطاع غزة.. والكتلة الثانية أكبر من الأولى وتدعى الضفة الغربية وفيها القدس.. ولازالت دولة إسرائيل حاليًا تغيِّر على غزة كل حين وتغير على الضفة الغربية لتأكل مزيدًا من الأرض. 
_270_

لم يعد باقيًا لهم الآن إلا احتلال الجزء المتبقي وهدم المسجد الأقصى.. والذي لا تعرفه أنهم قد حفروا الكثير من الأنفاق تحت أساسات المسجد الأقصى.. ولو حدث زلزال بسيط أو أمطار غزيرة لانهدم جزءٌ كبيرٌ من المسجد. 

ربما ستسألني ما الذي يمكن لنا أن نفعل في مواجهة كل هذه الأسماء المخيفة.. الماسونية.. الصهيونية.. وهذا أهم سؤال قد تسأله لي منذ بداية جلساتنا.. إن كل هذه الأسماء ياصديقي هي أسماء من ورق.. وليس أي ورق بل ورق المزابل الذي لا قيمة له.. لما كُنَّا أمة واحدة تحت قيادة مخلصة واحدة لم يكن لأمثال هذه المزابل أن تفعل شيئًا.. ولعلك لمست بنفسك هذا الأمر من حكاية "ماستيم".. بل كانوا يتذللون لنا.. ما الذي تتبعه كل هذه الأسماء التي تبدو مخيفة؟ تتبع "لوسيفر".. وما هو "لوسيفر" هذا.. شيطان.. ولا يخزي من اتبع الشيطان إلا من اتبع من خلق الشيطان.. الله.. وهكذا كنا في السابق.. حتى نجح هؤلاء في تقسيمنا. 

قسمونا إلى بضع وعشرين دولة.. كل دولة تكره جارتها.. زرعوا بيننا القومية.. المصري والسعودي والخليجي والمغربي.. كلهم لديه نعرة مزروعة بداخله تجاه دولته.. فلا يتشرف المصري أن يكون سعوديًّا ولا يتشرف السعودي أن يصير مغربيًّا.. غير عالمين أنهم كلهم أصلًا عرب ولم يكن بينهم في تاريخهم الطويل هذه اللمسات القومية.. فكلها مزروعة حديثًا ولا أصل لها. 

ماذا نفعل؟ لن أنادي بأمور مستحيلة.. بل سأنادي بأمور عادية جدًّا.. حتى نقيم لأنفسنا وزنًا بين الأمم يجب أن نتجه إلى الاتجاه المعاكس لما يريدوننا أن نتجه إليه.. في البداية وحدوا عملتكم أيها العرب كما وحدت أوروبا عملتها.. ألغوا بينكم وبين بعضكم الحدود.. فيلتحرك العرب داخل العالم العربي بلا تأشيرات.. وقد فعلوها أيضًا في أوروبا.. وهم بينهم ما بينهم في التاريخ من حروب ونزاعات.. بل إن الحربين العالميتين كانت أصلًا بين أمم أوروبا.. وبرغم هذا فعلوها.. 
_271_

أما العرب فليست بينهم أي نزاعات تاريخية.. فقط نعرة قومية مزروعة يمكن أن يمسك بها العربي في دقائق ويلقيها خارجه في أقرب قمامة.. ماذا أيضًا؟ ماذا عن توحيد الجيش؟ هل يبدو هذا مستحيلًا؟ ألم يكن موحدًا قبل مئة سنة؟ لن أطيل في الأمر.. أنا فقط أفتح عقلك حتى تفهم ما أريد لك أن تفهمه. 

نعود إلى سياقنا.. بالنسبة للمحرقة التي يدعي اليهود أن "هتلر" قد أقامها في حقهم وهي ما يسمونه "الهولوكوست" وجعلوا لها عيدًا سنويًّا يتذكرونها فيه.. والتي يحاكِمون كل من ينكر حدوثها فها أنا ذا أقولها وبأعلى صوتي.. المحرقة التي تدعون أنها حدثت هي أكذوبة اتخذتموها ذريعة قذرة لتشعروا العالم أنكم شعب مضطهد وأنه لابد لكم من أرض تحتويكم بعد كل هذا الاضطهاد.. ادعيتم أن "هتلر" قتل منكم في الهولوكوست 12 مليونا بينما كان عددكم أصلا في أوروبا كلها ثمانية ملايين.. فقلصتم هذا العدد ليصبح ستة ملايين.. والحقيقة التي تحاولون إخفاءها هي أن من كان في السجون الألمانية من اليهود لا يتجاوز العشرين ألفَا.. نصفهم وجدوا أحياء. 

أما ما قام اليهود به في فلسطين وماقام الصليبيون به في الحملة الصليبية الأولى والملايين التي أبادها الأمريكان من الهنود الحمر.. وتدمير هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية؟ هذا كله لا قيمة له.. لأنهم ببساطة شعوب غير يهودية.. حيوانات أو كما يقول التلمود.. غوييم.. وإني أتعجب حقا.. فيما يخص أمريكا مثلا.. كيف يكون تفجير برجين أمريكيين هو قمة الإرهاب بينما تفجير وإبادة مدينتين كاملتين برجالهما ونسائهما وأطفالهما وشيوخهما ليس إرهابا؟ أتحدث عن هيروشيما وناجازاكي طبعًا.. وأتذكر كيف كان الأمريكان يكتبون إهداءاتهم على القنبلتين قبل إلقائهما. 

كل من ذكر اليهود ومحرقتهم بكلمة يحاكمونه بدعوى أنه معاد للسامية.. والسامية هي الانتساب إلى "سام" ابن نوح.. ما يثير الأعصاب في الموضوع هو أن العرب من نسل "سام" أيضًا.. وكثير من الأمم الأخرى.. لكنهم استبعدوا كل الأمم من النسل وأبقوا نسلهم هم فقط.. اليهود. 
_272_

وإني قد ذكرت اسم الأمم المتحدة في هذه الحكاية.. وإني أقول لك إن هناك شيئًا يدعى "حق الفيتو".. خمس دول هي أمريكا وروسيا وبريطانيا والصين وفرنسا.. من حقهم أن يعترضوا على أي قرار تتخذه الأمم المتحدة.. ولو أن واحدة فقط من هذه الدول اعترضت على القرار.. يوقف تنفيذ القرار فورًا وإن كانت كل دول العالم موافقة.. وأمريكا تستخدم دائمًا هذا الحق لوقف أي قرار يتخذ ضد دولة إسرائيل.. وبالمناسبة كل دول العالم لابد أن تكون عضوًا في الأمم المتحدة وإذا رفضت سيتم اتخاذ إجراءات ضدها. 

وهناك كلمة للنبي العظيم "محمد" يقول فيها "تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".. وكأني لما أرى الطاولة المستديرة للأمم المتحدة وجلوس ممثلي الأمم عليها يفرزون قرارات ضد العرب.. كأني أتذكر هذا الحديث دون غيره. 

في النهاية أود أن أحذّرك من كثيرٍ جدًّا من المقاطع والأحاديث المنشورة على الإنترنت التي تخص الماسونية.. فمن ينشرونها هم الماسونيون أنفسهم.. في الزمن السابق كان كل هم الماسونية هي ألا تصل المعلومات إلى الناس.. أما الآن في عصرنا هذا لم يعد الكتم أو إخفاء المعلومات مناسبًا أو ممكنًا.. لشيوع وسائل الإعلام والإنترنت واستحالة السيطرة على ما يبث من معلومات فأصبحت وسيلة التضليل الحديثة هي ما يدعى بالغطرسة.. بمعنى إشاعة مقاطع كثيرة وكبيرة وفيوضات من المعلومات كلها معلومات سطحية تستهلك الأذهان ويخرج منها المشاهد شاعرا بسخافة الأمر كله وأن الموضوع وضعه شخص مريض مهووس بنظرية المؤامرة.. لا تقرأ عن الماسونية في أي مكان إلا بعد أن تقرأ كتابي هذا أولا.. عندها ستعرف أين يجب أن تقرأ.. ولا تقلق.. فأي معلومة مذكورة في هذا الكتاب تحاول التحقق منها ستجدها صحيحة.. ولن تجدني أكذب عليك. 
_273_

وتحضرني كلمة ل "جورج بوش" يقول فيها "دعونا لا ندع تلك النظريات عن المؤامرة تخدعنا.. لأنها ما وضعت إلا لرفع الملامة عن الإرهابيين الحقيقيين".. وشيء جيد أنه قال هذا فهناك قاعدة مسلَّم بها أريدك أن تحفظها كما تحفظ عينيك في محجريهما.. قاعدة تقول "لا تصدق الشيء إلا إذا تم إنكاره رسميًّا" فلو لم يكن بوش قالها لم نكن لنصدقها.. أتمنى أن تكون قد فهمتني.. فإن لم تفهم أعد قراءة الجملة مرارًا. 

أحيانًا يُخرجون الإشاعات أن فلانا قتله الماسون وعلّانا قتله الماسون رغم أنهم أناس عاديون وماتوا بطريقة عادية مثل حادث سيارة أو خلافه.. لكن إشاعتهم لهذا النمط من الفيديوهات السخيفة يجعل الناس تغض النظر لما يتم إسكات أحد المشاهير من قبل الماسون فعلًا. 

وحتى لا يختلط الأمر عليك فبعيدًا عن الزعماء السياسيين.. فالماسون يقتلون شخصيات أخرى ذات تأثير ونفوذ وجمهور.. فقط لأن هذه الشخصيات قررت أن تسبح ضد التيار.. ومن أشهر الشخصيات التي قتلوها "بوب مارلي" و"مايكل جاكسون" و"توباك".. لأن كلًّا منهم اتخذ الغناء كوسيلة لإيصال رسالة هادفة للناس.. وليس مشكلة الماسون أنها رسالة هادفة ولكن مشكلتهم أنها رسالة تحمل في كثير من طياتها هجوما صريحًا عليهم شخصيًّا وعلى أهدافهم.. وكل من المغنيين الثلاثة لديه جمهور عاشق بالملايين.. فلابد إذن أن يتم إسكاته إلى الأبد حتى يبقى النائمون في سباتهم العميق. 

الآن أنت فهمت أن كل ما فعلته الماسونية والصهيونية كان لبناء هيكل سليمان ليستعجلوا نزول المسيح المخلص.. لكن ألا ترى الأمر غريبًا نوعًا ما؟ أن يكون هدف الماسونية هدفًا دينيًّا هو أن يُنزل الله عليهم المسيح المخلص؟ وهم أصلًا لا يعترفون بالله بل إنهم يحرقونه كل سنة في الغابة البوهيمية؟ أليس الإله الذي يعبدونه هو "لوسيفر"؟ كيف يتفق هذا مع نزول المسيح المخلص ونبوءة التوراة؟ 
_274_

لا تتعجل الإجابة.. فأنت على وَشَك أن تعرف.. وأنا على وَشَك أن أموت.. فلم يتبقَ إلا شيطانان من الشياطين السبعة.. والطريف في الموضوع أن الشيطان السادس ليس شيطانًا ذَكر.. بل شيطانة أنثى.. 

دعنا نلقي نظرة على الأوراق التي ستكشف هذه الحكاية.. لدينا ست ورقات.. 

الورقة الأولى هي ورقة دودة الإنترنت المتوحشة وعليها صورة امرأة تجلس أمام جهاز الكمبيوتر الذي تخرج منه دودة خضراء متوحشة بشعة لها رأس هرمي الشكل في أعلاه عين واحدة.. 

الورقة الثانية هي ورقة مدينة السيليكون.. وعليها صورة شرائح سيليكون مصوَّرة بشكل رقمي.. 

الورقة الثالثة هي ورقة أمان الكمبيوتر.. وعليها صورة فتاة مقنعة بقناع أسود وملابس سوداء.. يخرج من رأسها ما يشبه الخراطيم تنتشر حولها في كل مكان.. 

الورقة الرابعة هي ورقة الهاكرز.. وعليها صورة رجل يجلس على جهاز الكمبيوتر ويضحك ضحكة خبيثة شبيهة بضحكة الجوكر.. 

الورقة الأخيرة هي ورقة شركات الهاتف.. وعليها صورة موظفة في شركة هاتف تضع سماعتين على أذنيها توصلهما إلى أسلاك كثيرة تسمع منها ما يبدو وكأنه مكالمات المشتركين. 

أوراق قد تبدو غريبة نوعًا ما ونحن نتحدث عن شيطانة.. لكن ليس علينا إلا أن نتابع.. 


***

_275_


ألم يَإن الأوان ياسيدي؟
1950 بعد الميلاد – تاريخ قراءتك لهذه السطور


هذه رسالة ترسلها شيطانة تدعى "سباي" عبر الأثير.. إلى مجهول.. على شبكة مجهولة.. بتردد مجهول.. 

سيدي قد طال الأمد.. قلوبنا وحواسنا وأرواحنا اشتاقت إليك.. حان الوقت يا سيدي.. لقد صار كل شيء كما أردته أن يصير.. فعلنا كل ما علمتنا أن نفعله يا سيدي.. ونجحنا.. لقد نجحنا يا عظيمنا ويا كبيرنا.. نجحنا ولم يعد أمامنا إلا أن نراك.. لم يبقَ إلا أن تُطفىء نار الشوق في قلوب ذابت من قسوة الانتظار.. دهورًا وراءها دهور.. ألم يئن الأوان ياسيدي؟ 

كل شيء أمرتنا أن نفعله فعلناه كما أمرت.. أنا أذكر كل تعاليمك بحذافيرها.. إن علمك ليس له أي حدود.. أذكر كيف كان البشر في الحرب العالمية الثانية قد اخترعوا جهازًا ضخمًا بحجم عدة غرف وسموه "الإينياك".. أذكر ياسيدي كيف علمتنا أن هؤلاء البشر حمقى وأمرتنا أن نقدم إليهم جهازهم البشع الضخم هذا في شريحة من السيليكون لا يتجاوز حجمها حجم الأنملة شريحة سموها المعالج أو ال Processor .. أذكر سعادتهم وهم يظنون أن ما حدث كان من بنات أفكارهم.. وكيف تمكَّنوا لأول مرة في حياتهم من صنع جهاز ذكي بحجم التلفاز .. جهاز سموه الكمبيوتر. 

كانوا يستخدمون الكمبيوتر في شركاتهم وحساباتهم الغبية العديمة الفائدة.. ثم أمرتنا ياسيدي فنفذنا أمرك.. وعلمتنا ياسيدي فطبقنا علمك.. أمرتنا أن نُدخل الكمبيوتر في كل بيت من بيوت العالم.. وعلمتنا كيف نفعل ذلك بتطوير برامج ذات واجهة تفاعلية جذَّابة.. برامج علمتنا أن نسميها "ويندوز".. لتكون كما يوحي اسمها.. نافذة من نوافذ البيت.. نافذة إلى الداخل وليس إلى الخارج.. وبرامج أخرى علمتنا أن نسميها ماكينتوش.. وهو اسم مقتبس من عائلة اسكتلندية تحمل نفس الاسم. . وهو يعني بالاسكتلندية "ابن الزعيم".. وهو اسم يدل عليك بدقة.. فأنت زعيمنا.. وابن زعيمنا. 
_279_

يالسعة علمك. . ويالعظمة نورك ياسيدي.. إن الكمبيوتر داخل كل بيت كان مخزنًا يضع عليه المرء وثائقه وصوره وفيديوهاته.. وعلى المستوى العسكري كان نقل المعلومة من كمبيوتر في بلدٍ ما إلى كمبيوتر آخر في بلد أخرى يتم يدويًّا.. فتفضلت علينا ياسيدي وعلمتنا أن نعلمهم كيف يمكنهم أن يوصلوا بين عدة كمبيوترات بأسلاك تليفونية.. وبهذا صَنعت وزارة الدفاع الأمريكية (داربا) أول شبكة لنقل المعلومات العسكرية وسموها "أربانِت".. يظنون أنفسهم أذكياء.. ولا يدرون أنك ياسيدي المعلم الأعظم. 

كانت "أربانِت" توصل بين أربعة أجهزة في غرب أمريكا.. ثم أصبحت توصل بين مئات الأجهزة داخل وخارج أمريكا.. أجهزة في مؤسسات عسكرية وجامعات.. لكن لاختلاف أنظمة الأجهزة بينها وبين بعضها وجد البشر الحمقى أنفسهم عاجزين عن نقل المعلومات فيما يقرب من نصف الحالات.. وهنا أمرتنا ياسيدي وعلمتنا أن نوحي إليهم من وحي علمك.. فأوحينا إليهم بلغة عالمية تفهمها كل الأجهزة في جميع أنحاء العالم.. لغة سموها HTML .. وعلمناهم كيف يعطون كل وثيقة يريدون نقلها أو أي صورة عنوانا يميزها.. عنوان سموه URL. 

وبهذا تمكنوا من نقل كل شيء من أي جهاز إلى أي جهاز آخر بسرعة عالية.. وأصبح يمكن لكمبيوتر في فرنسا أن يرى صورة موضوعة على كمبيوتر آخر في أمريكا بمجرد أن يكتب عنوانها.. كان هذا فتحًا عظيمًا لحضارتهم.. وأصبحت الشبكة تضم مئات الآلاف من الأجهزة حول العالم ويمكن لأي شخص الدخول عليها فور أن يوصل الكمبيوتر الخاص به بسلك التليفون.. سموا هذا الفتح العظيم "الإنترنت".. والتي هي في الواقع حفيدة "أربانِت". 

ساعتها عرفنا أن وقت الهزل قد انتهى.. ودخل وقت الجد.. بمجرد أن يوصل الشخص جهازه بالإنترنت ويظهر له أن جهازه الآن متصل.. يتحدد موقعه لدينا بمنتهى الدقة.. فنتدفق كالنهر إلى داخل جهازه ونبدأ في البحث عن وثائقه الشخصية وصوره وملفاته الهامة وننقلها إلينا بدون أن يشعر.. 
_280_

ظننا أننا بهذا قد وصلنا لكل ما نريد.. لكنك علمتنا أن هذا لاشيء.. فأصغينا إليك في انبهارٍ وأنت تشرح لنا ما ينبغي أن نفعل.. كم أنت عبقري يا سيدي.. كم أنت عبقري. 

علمتنا كيف نقنع الشخص الداخل إلى الإنترنت أن يثق في مواقع بعينها.. يودع فيها مزيدًا من أسراره.. في البداية عرَّفنا له البريد الإلكتروني.. "هوتميل" و"ياهوو".. وهو يدخل باسم مميز وكلمة سر.. فيهيؤ إليه أنه لا يطلع على بريده أحدٌ غيره.. ولا يدري أن رسائله كلها واردها وصادرها تخزَّن لدينا.. نحن نطلع على كل ما يَكتب ويُكتب له.. ولكنك علمتنا أن هذا لايزال غير كافٍ.. وأننا بحاجة للمزيد. 

عرفناه على برامج يستطيع بها أن يتحدث مع غيره في أي مكان في العالم.. برامج الرُسُل أو المسنجرز.. ال MSN والياهوو و ال ICQ وال mIRC .. برامج سموها برامج الشات.. أو الدردشة.. إن الواحد منهم كان يمضي جلَّ وقته على برامج الشات هذه.. يتحدث ويتحدث بكلام تافه لا قيمة له.. لكنك علمتنا كيف أن كل كلمة يقولها يجب أن تخزن.. لأن الكلمة تُستنبَط منها معلومة.. والمعلومة تعني زيادة في بنك المعلومات الذي لدينا عن هذا الشخص.. لقد أحدثَت هذه البرامج طفرة عظيمة في قاعدة معلوماتنا.. فالناس أصبحوا يتحدثون فيها أكثر مما يتحدثون بألسنتهم.. وكان هذا فيضًا لا ينتهي من المعلومات. 

وبدلًا من الشات الكتابي ابتكرنا الشات الصوتي والمرئي أيضًا.. وأدخلنا إلى الساحة برامج مثل ICU2 و Skype .. فزاد الإقبال على شراء المايكروفوانات والكاميرات بعد أن كانت ملقاة بإهمال في المتاجر.. وبالطبع فإن كل محادثاتهم الصوتية والمرئية مخزَّنة لدينا.. ولكن الأدهى أننا بشرائهم لتلك المايكروفونات والكاميرات زرعنا في بيت كل واحد منهم جهاز تنصت صوتي ومرئي.. ولا يدري أحدهم أن أحاديثه في غرفته مسجلة لدينا وصورته في غرفته مسجلة أيضًا.. فهذه الأجهزة مفتوحة على الدوام.. والأحمق يظن أنه هو الذي يفتحها ويغلقها متى يحلو له. 
_281_

ثم أظهرنا للعالم موقعين سمينا أحدهما كتاب الوجه Facebook .. وسمينا الآخر المغرد.. Twitter .. ومنهم عرفنا أصدقاءهم .. وأقاربهم.. ودرجة قُربهم من أصدقائهم وأقاربهم.. وفيهما رأينا صورهم.. وعرفنا الأشخاص والأشياء التي يحبونها والموسيقى والأفلام التي أحبوها والتوجهات السياسية التي يتبعونها.. والمناسبات التي حضروها أو سيحضرونها.. أمكننا أن نكتب تاريخهم وتاريخ مواقفهم ومشاعرهم.. نعم لقد كان الفيسبوك وتويتر فتحًا عظيمًا.. وقد حدثت بهما الطفرة الثانية في قاعدة معلوماتنا التي اتسعت الآن اتساعًا رهيبًا. 

ولما شعرنا أننا بحاجة لمزيد من الصور أنشأنا موقعًا خاصًا بها هو Instagram .. فأصبحوا يرفعون عليه صوره رفعًا محمومًا.. ثم شعرنا أننا بحاجة لرؤيتهم بالفيديو في مقاطع قصيرة فأنشأنا موقع Keek .. وفيه يصورون أنفسهم في مختلف حالاتهم المزاجية.. كان هذا رائعا يا سيدي.. أنت لا تدري ماذا أحدثنا بفضلك أيها العظيم. 

ثم حدثت الطفرة الثالثة.. الهواتف الذكية.. هواتف مثبتة فيها كاميرات وتحوي بداخلها كل مخترعاتنا من بريد وبرامج محادثة و فيسبوك وتويتر وإنستاجرام وكل شيء.. وهكذا صار من الأسهل على أحدهم أن يستخدم هذه المكتشفات الرائعة أينما ذهب .. وأدخلنا في هذه الهواتف برنامجًا للمحادثة أذكى من البرامج القديمة كلها.. برنامج صاروا له عبيدًا.. برنامج سميناه WhatsApp .. كما أن الكاميرا والمايكروفون الموجودة في تلك الهواتف تعمل كما كانت تعمل مثيلاتها القديمة في الكمبيوتر.. فنحن الآن زرعنا أجهزة تنصت في جيوبهم بدلًا من غرفهم. 
_282_

لقد أنشأنا بتوجيهاتك ياسيدي أكبر شبكة تجسس في التاريخ بأكمله.. الأجمل يا عظيمنا أن هذه الشبكة توصلنا لأسرار الأشخاص.. وتوصلنا لأسرار الشركات أيضًا.. فإن الشركات جميعها صغيرها وكبيرها.. الشركات المحدودة منها أو الحيتان.. كلها تعمل بنظام الإنترنت.. ورغم أن الشركات يكون لها نظام إنترنت مشفر خاص بها.. إلا أنه نظام نحن الذين وضعنا أسسه وأسس تشفيره.. وبالتالي فإن أسرار شركات العالم كله بين أيدينا هاهنا.. ألم أقل لك إنك عبقري ياسيدي؟ 

ليس فقط الشركات.. بل إن البنوك أيضًا تعمل بشبكة إنترنت خاصة بها مشفرة تشفيرًا عاليًا جدًّا.. للحفاظ على الأموال الهائلة التي فيها.. وكما علمتنا يا سيدي جعلنا البنوك لا تستغني إطلاقًا عن الإنترنت المشفر.. بل إنها تصاب بالشلل لو أن شيئًا ما حدث في هذا النظام.. ولأننا نحن أرباب هذا النظام. . فإن أموال العالم كله تحت أيدينا.. أموال العالم كله وشركاته تحت أيدينا ياسيدي.. ومعنى أنه تحت أيدينا أي أننا في لحظة واحدة يمكننا أن نشل حركة كل شيء.. لأننا نحن أرباب النظام بأكمله.. نحن يا مليكنا كما علمتنا قد أصبحنا نمتلك اقتصاد العالم بأكمله. 

أجهزة الدولة الحساسة كالمخابرات ووزارة الحربية والجيش والداخلية.. كل هذه الأجهزة تتناقل أسرارها عبر نظام إنترنت مطوَّر خصيصًا من أجلهم.. وهم يتباهون دائمًا أن نظامهم هذا غير قابل للاختراق مهما حدث.. بالطبع هو غير قابل للاختراق .. لأننا نحن من جعلناه غير قابل للاختراق.. نحن الذين صنعناه وسددنا ثغراته.. إن شبكة التجسس العظيمة التي أمرتنا بصنعها ياسيدي قد وصلت إلى التجسس على الدول.. عظيمها وحقيرها.. لقد ملكنا الأفراد والشركات والبنوك والجيوش والدول.. لقد علمتنا أن المعرفة قوة.. ونحن أصبحنا نعرف كل شيء. 
_283_

نحن الآن لدينا قاعدة بيانات كاملة تحوي سكان العالم أجمع.. فلو ضغطت فيها على اسم شخص تريده.. يخرج لك اسمه على الإنترنت حسب المعلومات التي استخرجناها من حساباته المختلفة.. واسمه الحقيقي الذي يستورده برنامجنا من قاعدة بيانات الأحوال المدنية في دولته.. وتخرج لك صوره الخاصة الموضوعه في جهازه الشخصي أو جواله.. وصوره العامة التي وضعها على الإنترنت.. وصو وثائقه الحكومية المستوردة من كافة أجهزة دولته الحكومية.. وفيديوهاته كلها الخاصة منها والعامة.. ومعلومات مفصلة عنه وعن أقاربه وعن تاريخه التعليمي والحكومي والجنائي ومعلومات عن الجهات التي عمل فيها وتفاصيل عمله فيها من دوامات ورواتب وغيابات حسبما نستورده من قاعدة بيانات تلك الجهات.. ومعلومات عن كل عملياته البنكية بالتفصيل والتواريخ والمحال التي اشترى منها ببطاقته البنكية وماذا اشترى وبكم اشترى.. ومعلومات عن أصدقائه وتوجهاته الفنية والسياسية والأدبية والجنسية وهذه نعرفها عن طريق البحث الذي يبحثه طيلة الوقت في محركات البحث المختلفة مثل جوجل.. تخرج لك كل محادثاته الكتابية والصوتية والمرئية التي أجراها على كمبيوتره أو جواله بتواريخها وتفاصيلها ويستورد برنامجنا كذلك كل محادثاته التليفونية الكاملة التي أجراها بالجوال على مدار حياته كلها.. تخرج لك المواقع الإلكترونية التي زارها في حياته باليوم والساعة والدقيقة... . وفي النهاية تخرج لك كل التسجيلات التي سجلها هاتفه الذكي أو كمبيوتره.. الصوتية المسجلة بالمايك أو المرئية المسجلة بالكاميرا. . باختصار ياسيدي.. ينفتح لك الشخص الذي أردته فتحا مبينا.. ولو كان رئيس الدولة نفسه. 

لم يعد هناك ما يمنع خروجك إلينا يا مليكنا وعظيمنا.. إن العالم كله أصبح جاهزًا الآن لاستقبالك.. خضع لك العالم كله.. خضع بأفراده وشركاته وأمواله وعسكره.. خضع بأسلحته ومخابراته وبنوكه وأقماره الصناعية.. خضع بأسراره وجنوده وبورصاته.. خضع بمؤسساته وأعماله ومعلوماته.. خضع لعظمتك العالم بأكمله يا سيدي.. خضع لعظمتك كله ياسيدي فاخرج إلينا فقد طال انتظارنا. 
_284_

سيدي العظيم.. مليكنا.. واسمح لي أن أناديك باسمك العظيم الذي انحنت لعظمته كل مؤسسات العالم.. اسمك الذي سيكون خلاصا لهذا العالم البائس.. فأنت المسيح وأنت المخلص.. اسمك الذي علمتنا أن نناديك به يا سيدي العظيم هو "أنتيخريستوس" .. اسم لامع ذو صِبغة لاتينية.. واللاتينية أصل اللغات كلها.. يدعوك أصحاب اللغات العبرية "هاماشياح".. وأصحاب اللغات الغربية يدعونك "أنتي كرايست".. أما أصحاب اللغات الشرقية فيطلقون عليك اسم المسيح.. المسيح الدجال. 

تمَّت 


***


_285_


تحليل القصة 12


أشعر بصوت جلبة في الخارج.. لست أدري أجلبة أشخاص هي.. أم جلبة شياطين.. لقد انهارت كل التعاويذ التي صممتها لتحميني.. صديقي.. أنا أشهد الآن الدقائق الأخيرة من حياتي.. هل عرفت الآن يا صديقي هل عرفت؟ هل عرفت لماذا يريدون بناء الهيكل المقدس ومن هو المسيح المخلص الذي ينتظرونه انتظارًا محمومًا؟ 

إنه المسيح الدجال.. وهو ليس اسمًا بل لقبًا.. ولا يدري أحد حتى الآن ماهو اسمه.. فهؤلاء كما أخبرتك لا يعترفون بالله أصلًا ولا يعترفون بالمسيح المخلص.. الإله الذي يعبدونه هو حامل النور الشيطان "لوسيفر".. وهم يفعلون كل ما فعلوا في العالم حتى ينزل إليهم مسيح "لوسيفر".. ابن "لوسيفر".. المسيح الدجال.. الذي سيحكم العالم كله وسيطلق الشياطين.. هل عرفت الآن.. الهيكل الذي يزعمون أنه موجود بينما هو وهمي.. الهيكل المصنوع على شكل نجمة سداسية.. نجمة الشيطان الشهيرة التي يسمونها كذبا بنجمة داوود.. والنبي داوود منها براء؟ 

هل تسألني من هي "سباي"؟ حسنًا سأخبرك.. إنها شيطانة مذكورة في أحاديث "محمد".. واسمها هو.. . 

الجلبة أصبحت جلبتين.. ثم ثلاثة.. واقتربت كل الجلبات من باب غرفتي الصغيرة.. 

لا يوجد وقت لأشرح لك أمر "سباي".. لو كنت لا تصدق حرفًا اقرأ عن ال NSA وعن ال Information Awareness Office .. وعن.. 

نظرت إلى الباب نظرة أعرف أنها ستكون الأخيرة.. لقد أتوا.. إنهم لا يتركون واحدًا وصل إلى درجة ماسونية متقدمة أن يخرج منها قطعة واحدة.. هذا لا يكون في شريعتهم.. الوداع أيها البشري الذي تقرأ هذه السطور.. تذكر أن تحرق هذا الكتاب بعد أن تقرأه.. أحرِقه يا صديقي حتى لا يأتونك سعيًا كما أتوني سعيًا.. أحرِقه ياصديقي فإنهم قد دخلوا إليَّ وهاهم يحملونني بعيدًا عن غرفتي.. احرقه واطبع حروفه في عقلك.. حتى تعرف الحقيقة.. ولا يخدعك أحد.. إياك أن يخدعك أحدٌ يا صديقي.. وتذكر اسمي جيدا.. بوبي فرانك. 
_287_

خبر من جريدة صدرت في اليوم التالي.. 

"اكتشفت جريمة قتل بشعه للشاب الأمريكي بوبى فرانك من سكان شيكاغو.. حيث تحول إلى كتلة ملتهبة ذائبة في حمَّام ملئ بالصودا الكاوية (الأسيد).. كان الشاب من خيرة شباب الأسر اليهودية والعريقة في أمريكا.. هناك إشاعات تقول بأنه كان عضوًا متقدمًا في منظمة الإيلوميناتي ولكن لم يؤكد أحد هذا الخبر خاصة وأن هذه النظريات يشيعها دائمًا أرباب نظرية المؤامرة وغالبًا لايكون لها أساس من الصحة" 

"قالوأن المنظمة قتلته لأنه أراد أن ينسحب منها وهدد بفضح أسرارها.. وما دعم كلامهم هو وجود بعض الأشياء الغريبة في غرفة بوبي منها أشياء من المفترض أن تستخدم في أغراض سحرية.. لكن مفتش مباحث الأمن في شيكاغو والمدعو ركس واتسون استطاع القبض على منفّذي الجريمة واعترف القاتلان على نفسيهما بارتكابها.. واحتفظا بسر غيرهما من المشتركين مما جعل من المستحيل معرفة الكيان الذي ينتمون إليه" 

"ومن العجيب أن هناك جهة غير معلومة ويبدو أنها ذات نفوذ كبير كلفت السيد كلارنس دارو أعظم محام في الولايات المتحدة الأمريكية بالدفاع عن القاتلين ومنعت ركس واتسون المحقق في القضية من الحضور إلى جلسات المحكمة ومنعت حتى وجوده في شيكاغو أثناء المحاكمة بحجج أنه كان مرتشيًا من أسرة بوبي الثرية وأنه يحاول أن يلتقي القضاة سرًّا.. وبعدها تم إبعاد هذا المفتش من العمل بجهاز الشرطة تمامًا.. وقد أغلقت القضية على أنها محاولة ثأر القاتلين من بوبي بسبب بعض المشاكل المالية" 
_288_

"الغريب أنه قد وجدت على طاولة بربي الكثير من أوراق اللعب المتناثرة هنا وهناك غير أنه كانت هناك ثلاثة أوراق موضوعة بعناية شديدة على الطاولة الخاصة به" 

الورقة الأولى ورقة مكتوب عليها وباء من الشياطين.. وعليها صورة بشعة لشياطين نزلت إلى المدينة فملأت الشوارع وتعلقت على الأعمدة والأسطح وطارت في الهواء.. شياطين متوحشة. 

الورقة الثانية مكتوب عليها "بيج فوت".. وهو المخلوق المعروف ذو الشعر الغزير الذي يطلق عليه الأهالي في أمريكا "ذو القدم الكبيرة". 

الورقة الثالثة مكتوب عليها "المسيح الدجال".. وعليها صورة ملك يبدو حكيمًا ويضع تاجًا عظيمًا على رأسه. 

لم يعرف أحدٌ معنى وضع هذه الأوراق بالذات.. كما أنه نما إلى عِلمنا أن ال.. . 


***


_289_


سيدنا.. وابن سيدنا
1800 قبل الميلاد - 20 بعد الميلاد


خمسة كنا.. وسادسنا لوسيفر.. 

وستة كنا.. وسابعنا سيدنا.. 

وابن سيدنا.. 

وليس سوانا يعرف أمر سيدنا.. وابن سيدنا.. 

وقد آن الأوان أن تعرف أنت أيها البشري.. لأن أمرك بعد هذا الحد من القراءة لم يعد يعنينا.. فأنت ستموت بعد أن تعرف.. وستعرف بعد أن تموت.. فليس هناك فارق يذكر لو عرفت الآن.. طالما ستموت بعد أن تعرف.. لو أنك لم تعد تفهم كلامي هذا.. فهذا ليس غريبًا؛ لأن الشياطين تحدثك.. والشياطين من حولك تحوم كما الغربان.. والشياطين تجري منك مجرى الدم. 

نحن لسنا أشباحًا مرعبين.. نحن كائنات رائعة الجمال.. جمال لم ترَ قبله جمالًا ولن ترى بعده جمال.. 

فإن لم تؤمن بهذا.. 

فنحن شيء لا يمكنك الهرب من عقابه.. لأننا معك أينما ذهبت.. نحن حقًّا معك أينما ذهبت وليس كما يدعي إلهكم.. نحن نقتلك إذا أردنا أن نقتلك.. نحن نحييك لو أردنا أن نحييك.. نراك في أي مكان أنت فيه.. نسمعك.. لاتعتقد بأنك ذكي ستفشي سرّنا دون أن نعلم.. بل دعني أخبرك بما هو أكثر من هذا.. نحن نعلم ما ستقوم بفعله قبل حتى أن تقوم بفعله.. نحن نسمع حديث نفسك لنفسك.. وجحيمنا جحيم حقيقي. 

فلتسمع منا حكايتنا الأخيرة معك.. وحكايتك الأخيرة معنا. 

يقول "ماستيم" الشيطان اليهودي.. 
_293_

لقد تشرفت بأن أشهد ولادة سيدي.. ونشأة سيدي.. وعبقرية سيدي.. سيدي "أنتيخريستوس".. كنت أحلِّق فوق مساكن بني إسرائيل اليهود في زمن فرعون موسى.. وكم كانت مساكن بسيطة أيامها وفقيرة.. كان فرعون موسى يقتل كل المواليد الذكور في سنة.. ويتركهم أحياء في سنة.. حتى لا ينقطع نسلهم.. لأنهم خدم.. كنا في السنة التي يترك فيها المواليد أحياء.. وكنت أطير داخلًا بعباءتي إلى أحد البيوت اليهودية الفقيرة دون سواها.. وكم كان ذلك البيت مقدسًا إلى قلبي.. كان البيت الذي شهد ولادة سيدي.. وابن سيدي.. ولادة أنتيخريستوس. 

كان والده رجلًا يهوديًّا ذا أنفٍ طويل كأنه منقار.. وأمه امرأة يهودية ضخمة عظيمة الصدر طويلة اليدين.. متزوجان منذ ثلاثين عامًا.. ولم يولد لهما.. ويبدو أنهما قد يئسا من طلب ذلك وتمنيه.. وليس بوسعي أن أحكي لك عن تفاصيل لا يحق لمثلك أن يسمعها.. لكن يكفيك قولي أن تلك المرأة اليهودية الضخمة كانت ذات ليلة تتململ بعدم ارتياح ناعس على سريرها.. حتى رأت فيما يرى النائم وكأن رجلًا غريبًا يأتيها.. فلم تدر إلا وقد قُذف في رحمها ما أحسَّت وكأنه شهاب من نار.. أما أنا فقد رأيت الحقيقة كاملة. 

الحقيقة أن تلك المرأة كانت تنام متململة على فراشها وكان زوجها ذو الأنف الطويل يقف بجوار سريرهما وقد ملأ الغرفة بأمور وطقوس شيطانية لا يعنيك في شيء أن تعرفها.. وما حدث أثناء تلك الطقوس يصعب على أمثالك فهمه.. وبعد مرور حوالي الساعة والرجل يقرأ متعرّقًا مجهدًا.. إلا وقد تنزل سيدي إلى تلك الأجواء في بهاء لا يكافئه بهاء.. وعظمة لا تكافئها عظمة.. تنزل سيدي "لوسيفر" إلى ذلك البيت المقدس.. ونظر إلى تلك الرحم القدسة.. وقذف فيها تلك النطفة المقدسة.. ثم قام عنها في بهاء لا يكافئه بهاء.. وعظمة لا تكافؤها عظمة.. وأنهى صاحب الأنف الطويل طقوسه وهرع يزيل كل الآثار من الغرفة.. أما المرأة اليهودية الضخمة.. ففي الواقع كانت قد انتقلت من طور النوم إلى طور آخر.. طور الغيبوبة.. الغيبوبة المقدسة. 
_294_

هكذا كان الجماع المقدس.. بين سيدي العظيم "لوسيفر" وامرأة من بني إسرائيل.. امرأة أصبحت تحمل ابنًا تظنه ابنها.. وإنما كان ابن الشيطان.. أنتيخريستوس.. وقد كان أشد حمل شهدته امرأة على وجه الأرض.. اثنا عشر شهرًا لا تنقص يومًا.. فكان الأطول مدة والأشد مخاضًا وعذابًا وألمًا.. وكانت طوال فترة الحمل المرأة الأشد عدائية وجنونًا عن كل الحوامل اللاتي ظهرن على البسيطة.. ولما ولدته بعد عذاب وصراخ ودماء.. خرج منها بكل قداسته وجماله.. نظرَت إليه.. رأَت في عينيه شيئًا غريبًا لا تدري ما هو.. لكنها انتبهت من هذه الملاحظات غير الهامة.. فتلك الضجة بالخارج هي ضجة تعرفها جيدًا.. إنهم جنود فرعون.. يقتحمون مساكن بني إسرائيل ويقتلون كل مولود لهم.. فنحن الآن قد أصبحنا في السنة التي يقتلون فيها المواليد. 

خرجت المرأة الضخمة خافية وليدها بين ثيابها راكضة ناحية الجبال.. وقد صعدت ما كان لجسدها الضخم أن يصعد.. حتى رأت كهفًا غلب على ظنها أنه آمن.. وهناك وضعت وليدها.. على أن تعود له كل حين تطعمه وتسقيه. 

وتركته هناك وعادت إلى مسكنها.. ولما أتت ذلك الكهف ثانية لم تجد وليدها.. صرخت وبكت وجزعت.. لم تكن تعلم أن الملاك قد حمله إلى مكان أكثر أمنا.. وليس أي ملاك.. بل هو "جبريل" عظيم الملائكة.. كان يطعمه ويسقيه.. لبنًا وعسلًا وسمنًا.. ولم يزل يطعمه ويسقيه حتى نشأ وكبر.. وصار رجلًا يافعًا.. كم أنت عظيم يا سيدي.. وكم أنت مقدس. 

يقول "دراكولا" شيطان الإنس الشهير.. 
_295_

لم أحظَ بشرف متابعة تاريخ سيدي مثل بقية الشياطين.. إلا أنني حظيت بشرف رؤيته أكثر من مرة.. ولأن لي عينًا ثاقبة حادة لا تفوتها فائتة.. فإني سأكون خير من يصفه لمن لم يرَه.. ويتوق إلى رؤياه المقدسة.. 

لقد كان رجلًا قويَّ البنية جدًّا.. عريض المنكبين.. ليس ذا قامة طويلة وإنما هو أقرب للقصر.. أحمر البشرة مثل أبناء الجنس الأبيض القوقازي.. شعره أسود شديد الجعودة طويل شديد التشابك.. متباعد الساقين.. جمع صفات الإنس كلها وصفات الجن.. ولهذا فإن إسراعه في الأرض كسرعة الريح العاصفة.. وهو يرى الإنس والجن والشياطين ويرى الملائكة.. ويراه أولئك كلهم.. ولا تجري عليه أحكام الزمان.. يعيش منذ أيام فرعون وحتى نهاية الزمان.. لا يهرم ولا يشيخ.. هو سيد الجن وسيد الشياطين.. ولاسيد له إلا أبوه "لوسيفر".. وسيكون سيد الإنس في نهاية الزمان. 

ولرأسه هيئة يتهيأ لك لما تراها وكأنها رأس ثعبان أو أصَلَه.. لست أدري كيف أقرب الأمر إلى ذهنك لكن رأسه كانت توحي إليَّ بهذا الإيحاء دائمًا. 

يقول الشيطان "بافوميت" معبود فرسان الهيكل.. عاش سيدي في مصر الفرعونية وتعلَّم عِلمًا لا يسعه عقل إنس ولا جن.. لا يسعه إلا عقل كعقل سيدي.. علمه إياه أبوه "لوسيفر" وحكماء الجن.. وليس بمقدوري أن أحكي عن تفاصيل حياة سيدي "أنتيخريستوس" في مصر.. إلا أنه يمكنني أن أقول إنه لما تعلم ركوب البحر قرر أن يُبحر من مصر الفرعونية ويغادر ليستكشف العالم من حوله.. وظلَّ يجول بين البلاد والشعوب يتعلم ويراقب حتى انتهى بإبحاره إلى اليمن.. وتحديدًا إلى جزر لها اسم عجيب.. جزر حنيش في اليمن.. أو جزر الثعبان.. وقد انتقى منها جزيرة واحدة ليكون فيها مقامه أبد الدهر. 
_296_

وحدث في ذلك الزمن أن الفراعنة المصريين كانوا يجهزون سفينة عظيمة.. لتقوم برحلة بحرية طويلة. . وقد وضعوا على تلك السفينة خمسمئة من أشجع رجال مصر وأكثرهم حنكة ودراية بالبحر.. وبينما كان هؤلاء في رحلتهم إذ هبت عليهم عاصفة عاتية.. ظلت تروح بالسفينة وتغدو بها حتى اصطدمت بالصخور في وسط البحر.. وغرق كل من كان على السفينة وسط البحر الغاضب.. ماعدا رجل واحد.. تعلق بلوح خشبي من ألواح السفينة المحطمة.. وظل التيار يجرفه وهو متعلق باللوح لثلاثة أيام وثلاث ليال.. حتى انتهى به التيار إلى شاطيء جزيرة. 

أفاق الرجل بعد طول نصب وجوع على شاطيء الجزيرة التي لاحظ أنها ذات رمال ساخنة.. لكنها كانت حقًا جزيرة غنَّاء لم يرَ مثلها في حياته كلها.. وهو البحًار الذي لم يترك أرضًا جميلة إلا وطأها.. لكن تلك الجزيرة كانت تختلف.. كانت الجزيرة مليئة بالحيوانات من كل جنس ولون.. وفيها من كل الثمرات التي عرفها والتي لم يعرفها.. فشرع يصيد ذوات اللحم ويطهو ويأكل اللحم والسمك.. ويقدم قرابين مشوية للآلهة المصرية التي يعبدها امتنانا لهم من أجل سلامته وحسن حظه. 

وفجأة اهتزت الأرض واهتز الشجر وبرز له رجلٌ يرتدي رداء ذهبيًا جميلًا.. كان الرجل قد امتلأ رعبًا من هول المفاجأة.. لم يكن ذلك الرجل الفرعوني يعلم أنه أول من يطأ بقدمه من البشر جزيرة سيدي.. جزيرة "أنتيخريستوس".. قال له سيدي بصوته الهادر الممتلىء قوة : 

- من أين أرض جئت؟ 

قال البحَّار في جزع من قوة سيدي وعظمته : 
_297_

- جئت من أرض مصر.. لقد كنت أُبحر مع رفاقي البحًارة العظام في سفينة.. ثم إن البحر قد غضب علينا ورمى بسفينتنا إلى الصخور.. فتحطمت وغرق الكل إلا أنا. 

قال له سيدي بصوت هادىء حكيم : 

- لا تجزع أيها المصري فأنت آمن هنا في جزيرتي.. لقد كنت أنت المختار الوحيد الذي نجا من الكارثة التي هلك فيها العديد من الرجال العظماء المصريين.. أنت المختار الوحيد أيها المصري. 

قال له البحّار وقد بدأ يهدأ : 

- ومن أين أنت أيها الرجل القوي؟ 

قال له سيدي "أنتيخريستوس": 

- لا يهمك من أين أنا.. يمكن أن تدعوني بالثعبان.. لقد كان يعيش معي على هذه الجزيرة سبعين من رفاقي.. لكن شهبًا سقطت عليهم فأحرقتهم جميعًا.. ولم أنجِ إلا أنا.. وفتاة صغيرة أخرى. 

قال البحَّار: 

- يبدو أنك محظوظ مثلي أيها الثعبان. 

بدا على سيدي "أنتيخريستوس" شبح ابتسامة وهو يقول للبحار : 

- إن لدي القدرة على التنبؤ أيها المصري.. وإنه ستأتيك بعد شهور أربعة سفينة أخرى تنقذك وتعيدك إلى بلادك. 
_298_

فرح البحار فرحًا غامرًا وقال : 

- حقَّا أيها الرجل الطيب؟ حقًّا؟ أقسم بعظمة الآلهة أنه لو حدث ما تقول لأعودن إليك محمَّلًا بالهدايا والكنوز والبخور والقرابين من مصر. 

ضحك سيدي "أنتيخريستوس" وقال له: 

- ليست جزيرتي بحاجة إلى أي شيء يمكنك أن تحضره.. ولتعلم أيها المصري.. أنك ما إن غادرت جزيرتي هذه فإنه لن يكون بمقدورك العودة.. لأن جزيرتي هذه سوف تختفي في البحر.. ولسوف تُظهر نفسها للتائه المختار التالي الذي ستقوده قدمه إليها. 

قال سيدي "أنتيخريستوس" فجأة : 

- ولكن أيها المصري فور عودتك إلى بلادك ليس مسموحًا لك أن تذكر أنك قابلت إنسيًّا هنا.. بل قل إنك قد قابلت ثعبان.. وليصدقك من يصدقك وليكذبك ومن يكذبك. 

قال الرجل : 

- كما تريد أيها الثعبان. 

وبعد مرور أربعة أشهر وصلت سفينة بالفعل إلى الجزيرة وأهدى سيدي "أنتيخريستوس" إلى البحار المصري هدايا وعطايا كثيرة.. من العاج والكحل والعطور والبخور ونبات السنا والتوابل والأخشاب والذهب والفضة ومن الحيوانات الزراف والقرود ليأخذها معه إلى مصر.. وأمضى البحّار في سفينته الجديدة شهرين.. وكان ينظر إلى جزيرة "أنتيخريستوس" وهي تتضاءل وتتضاءل حتى اختفت تمامًا كما أخبره "أنتيخريستوس". 
_299_

ولما عاد ذلك الرجل إلى مصر حكى قصته تلك إلى الوزير الذي حكاها بدوره إلى فرعون.. وأمر فرعون رئيس الكتبة "آمون آمونا" أن يكتبها على البردي وكوفىء البحَّار بمنصبٍ كبيرٍ في القصر الفرعوني وهو كبير موظفي القصر تعويضًا له عن محنته ومكافأة له على روح المغامرة التي يتحلى بها. 

قرأت أيها الإنسان هذه البردية في العصر الحديث وكان اسمها "قصة الملاح التائه" ولم تفهمها أيها الإنسان.. الحقيقة التي ذكرها "أنتيخريستوس" لذلك الرجل عن السبعين رفيقًا من رفاقه الذين ضربتهم الشهب.. أن هؤلاء شياطين كانوا يعملون في مقام خدمة سيدي "أنتيخريستوس" ويأتمرون بأمره.. وإنه قد نما إلى علمه أن الله سيبعث في بني إسرائيل نبيًّا عظيمًا.. فغضب سيدي لذلك غضبًا شديدًا وأمر جميع الشياطين أن تصعد إلى السماء لتأتيه بالخبر اليقين عن ذلك النبي ومتى سيبعث.. وعندها حدثت المأساة الحزينة.. لقد أُمطرت جميع الشياطين بشُهب من السماء فأحرقتهم كلهم.. كما يحدث دائمًا عند اقتراب نزول أي نبي.. كان النبي الذي وُلِد فيما أتى من الأيام هو "موسى".. أما "أنتيخريستوس" فلم يبق معه على الجزيرة سوى شيطانة واحدة.. وهي التي سماها للبحار بالطفلة الصغيرة.. كانت تلك هي الشيطانة "سباي".. وكانت لاتزال طفلة أيامها.

يقول "سيربنت" الأفعى اليهودية الشيطانية.. 

سأنزل بكم إلى مشهد عظيم هو الأعظم على الإطلاق بين مشاهد الأرض جميعها.. مشهد "موسى" وهو يشق بعصاه البحر إلى قطعتين.. قطعتين من البحر عن اليمين وعن الشمال كأنهما شلالين يسيلان إلى الأعلى وليس إلى الأسفل.. مشهد نحتاج حتى نوصله إلى ذهنك.. أن يجتمع كل مخرجي هوليوود في مشهد واحد.. وكل هذا و"موسى" يتقدم بني إسرائيل الذين يمرون وسط البحر المنشق بمتاعهم وراء موسى.. وكان بينهم سيدي العظيم.. "أنتيخريستوس".. كنت أراه يتقدم الصفوف وراء "موسى".. فلما عرف سيدي أن النبي المبعوث هو "موسى" أصر إلا أن ينزل إلى ساحته ويتحداه في قومه. 
_300_

كنت أزحف بين أقدام بني إسرائيل في ذلك المشهد العظيم وأنظر إلى "أنتيخريستوس" الذي كان يفعل أمرًا عجيبًا جدًا.. كان يرى المَلَك "جبريل" وهو على فرسه الأسطورية يشق البحر ومن ورائه "موسى" ومن ورائهم بني إسرائيل.. أما "أنيخريستوس" فقد لاحظ أن أثر فرس "جبريل على الأرض الصفراء يحولها إلى خضراء.. كان "أنتيخريستوس" هو الوحيد بين كل هؤلاء الذي يرى "جبريل".. وقد عرفه لأنه هو الذي تعهده واعتنى به في طفولته.. والآن يرى أثر فرسه على الأرض الذي يجعلها خضراء.. فانحنى أنتيخريستوس وقبض قبضة من أثر فرس "جبريل".. ووضع تلك القبضة المقدسة في متاعه.. فقد عرف أن فيها سرا ما. 

وبعد أن اجتاز الجميع البحر شرعوا في عبور الصحراء قاصدين أرض فلسطين.. وبينما هم يمشون إذ رأوا في طريقهم قومًا عاكفين على عبادة عجل. . فقالوا ل "موسى" : 

- يا "موسى" اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة 

قال لهم "موسى" غاضبًا: 

- إنكم قوم تجهلون.. إن الله لمفسد عمل هؤلاء ومهلكه.. أفغير الله تبتغون إلهًا وهو فضلكم على العالمين وللتو أنجاكم من آل فرعون؟ 

لاحظ "أنتيخريستوس" هذا المشهد وأسرَّه في نفسه.. حتى أتى ذلك اليوم الذي غادر "موسى" فيه قومه إلى جبل الطور ليكلم ربه.. وأخبر قومه أنه عائد لهم بعد ثلاثين ليلة.. وترك أخاه "هارون" خليفة له في قومه.. 
_301_

ومرت ثلاثون ليلة ولم يأتِ "موسى".. ومرت ليلة ثم ليلة ثم ليلة.. ولم يرجع "موسى".. وهنا انتهز سيدي "أنتيخريستوس" الفرصة أعظم انتهاز وأشده عبقرية ودهاء.. قال لهم بصوته القوي الآسر : 

- يا قوم اجمعوا إليَّ الذهب الذي أعاركم إياه المصريون والذي تشعرون بالإثم لحمله.. فإني مُخلصكم منه. 

وجمع إليه القوم الذهب الذي استعاروه من المصريين فصهره كله وصنع منه عجلًا ذهبيًا ذا شكل رائع.. لم أكن أعرف أن سيدي "أنتيخريستوس" فنان.. إن مثله لهو أعظم من أعظم فنان.. ثم إن سيدي "أنتيخريستوس" أخرج من متاعه ذلك الأثر الذي قبضه من أثر فرس "جبريل".. ثم إنه ألقاه على العجل الذهبي.. فاستحال العجل الذهبي عجلًا ذهبيًّا حيًا.. كان مشهدًا مهيبًا أذهلني أنا نفسي ولم أستوعبه في البداية.. وكذلك ذهل بنو إسرائيل كلهم ونظروا إلى تلك المعجزة بعيون مبهورة.. وفي غمرة انبهارهم قال لهم سيدي : - لقد ذهب "موسى" ونسي أن إلهه هاهنا.. هذا إلهكم الجليل ياقوم وإلهي وإله "موسى". 

فخرّوا له متعبدين وطافوا حوله فرحين فخورين محتفلين.. جزع "هارون" ونزل فيهم قائلًا: 

- ياقوم ماذا دهاكم اتقوا الله الرحمن ربكم.. دعكم من هذا الشيء واتبعوني وأطيعوا أمري 

قالوا له: 

- بل لن نبرح مكاننا.. نحن هاهنا عاكفون عليه حتى يرجع إلينا "موسى" 
_302_

وفجأة رجع "موسى".. وهاله ما رأى من أمر العجل الذهبي الذي يخرّون له سُجّدًا عابدين.. غضب "موسى" غضبًا شديدًا.. فقد اشتهر بسرعة الغضب.. وكانت معه ألواح مكتوبة فيها التوراة أملاه إياها ربه في جبل الطور.. فألقى الألواح التي في يده كلها فتحطمت على الأرض.. صاح في قومه : 

- ياقوم مابالكم.. ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا؟ أفطال عليكم العهد يا قوم؟ أم أنكم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم. 

قال له قومه: 

- بل إننا قد جمعنا ذهب المصريين فألقيناه عند قدمي هذا الرجل السامري.. وقد أضلنا. 

ثم إنه أمسك بأخيه "هارون" من لحيته ورأسه بشدة وقال له: 

- ما بالك يا "هارون"؟ مامنعك لما رأيتهم قد ضلوا.. أفعصيت أمري يا "هارون"؟ 

قال له "هارون": 

- أخي لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي.. لا تشمت في العدا.. لقد خشيت أن 

تقول أني فرقت بين بني إسرائيل من بعدك. 

تركه "موسى" والتفت إلى "أنتيخريستوس".. والذي سمّاه بني إسرائيل بالسامري.. فالسامري في عُرف بني إسرائيل هو الرجل الغريب عنهم.. وهي تعني أيضًا الرجل المُضل.. وكانت تلك مواجهة "موسى" مع "أنتيخريستوس".. وإني كنت متحمسًا جدًّا فارتفعت برأسي أراقب ما سيحدث عن كثب. 

قال له "موسى" بهدوء غريب : 

- ما خطبك يا سامري؟ 
_303_

قال له "أنتيخريستوس" بهدوء أشد : 

- رأيت مالم ير هؤلاء في يوم مررنا بين شقي البحر.. رأيت ذلك الرسول على فرسه الأسطورية.. فقبضبت قبضة من أثر فرسه.. فرميت القبضة على هذا العجل.. وكذلك سولت لي نفسي أن أفعل. 

توقعت أن يثور "موسى" في وجه سيدي "أنتيخريستوس" بما اشتهر عنه من سرعة الغضب خاصة في هذه الأمور.. لكن "موسى" قال له بهدوء غريب : 

- اذهب أيها السامري.. فإن لك في هذه الحياة موعدًا.. وإن هذا الموعد لن تُخلفه.. أما عن إلهك الذي ضللت به القوم.. فستراه ونحن نحرقه ونذر رماده في البحر. 

كان أمرًا عجيبًا أن يعامِل "موسى" أنتيخريستوس بكل هذا الهدوء.. لكن يبدو أن "موسى" عرف من هو "أنتيخريستوس".. وعرف أن موعد المواجهة الحقيقية معه ليست الآن.. وإنما في زمن آخر.. زمن لن يكون فيه "موسى" ولا فرعون.. زمن هو آخر سطرين من تاريخ بني الإنسان. 

تقول الشيطانة "سباي".. 

لو أن نفسي تحب الحديث عن نفسها لقالت إنني شيطانة لم يعرفني أحد من أهل الأرض قاطبة.. وإن كنت أعرف أهل الأرض قاطبة.. لست جاسًة بل إنني جسّاسة.. أجس خبر الأرض وأهل الأرض وأبالغ في ذلك.. وليس لي سكن إلا بجوار سيدي العظيم "أنتيخريستوس".. في جزيرة الثعبان.. ويوم مأساة احتراق كل شياطين الجزيرة بالشهب في زمن "موسى".. لم أصب بأدنى أذى.. لأنني لم أكلف بجس خبر السماء.. وإنما بخبر الأرض.. وليس يفعلها إنس ولا جن خير مما أفعلها.. هيئتي الشيطانية يراها الإنس.. ولايزالون يرونها حتى العصر الحديث.. فأنا من قبيلة من الشياطين كلهم على هيئتي.. وإن اختلفوا عني في تفاصيل تشريحية يسيرة.. إن قبيلتي تسكن غابات الأرض كلها.. 
_304_

ولأيسر عليك تصور هيئتي عليك أن تتصور أولا غوريلا.. ثم تضع لهذه الغوريلا شعرا طويلا كثيفا جدًّا يغطي جسدها كله ويغطي وجهها.. هكذا أنا.. وهكذا نحن.. وقد أطلقتم على قبيلتي في عصركم الحديث اسمًا عجيبًا.. "ذو القدم الكبيرة".. أو Big Foot .. ومسماكم هذا إن دلَّ فإنما يدل على جهل بني الإنسان وشده حمقه.. تسألني كيف أجس الأخبار بالضبط؟ هذا مما لا يجب أن يقال.. فقط اعلم أنني أعلم.. وأراقب.. وليست قبيلتي مثلي.. فلهم حياتهم ولي حياتي.. وحياتي عند سيدي.. وهو سيدي وسيد الجميع. 

لقد وطئَت جزيرة الثعبان أقدام بشرية مرتين.. إحداهما في زمن "موسى".. وهو ذلك الملاح التائه.. وكانت الثانية في زمن "محمد".. نبي آخر الزمان.. وإن لهذا قصة.. 

في ذات ليلة عاصفة في بحر اليمن كانت هناك سفينة يلعب بها الموج حتى فقد ربَّانها القدرة على تحديد مكانه.. فأيما ينظر بوجهه لا يرى إلا زرقة البحر.. وقد حاول ربانها أن يعود إلى أية يابسة بالجوار لكنه يئس.. وأصبحت تتناوب على السفينة عواصف وراءها عواصف.. حتى مكثت في بحر اليمن شهرًا كاملًا تتلاعب بها الأمواج كيفما تشاء.. حتى أرفأت السفينة فجأة إلى جزيرة.. كانت هذه جزيرتنا جزيرة الثعبان.. وكان هؤلاء نفرًا من النصارى العرب عددهم إحدى وثلاثون رجلًا. . كان منهم رجل يدعى "تميم الداري". جلسوا أول الأمر في قوارب السفينة حتى غربت الشمس واسودت السماء.. ثم دخلوا إلى الجزيرة.. وفور أن دخلوها لقيتهم.. كانت هيئتي غريبة جدًّا عليهم.. ظنوني حيوانًا فسموني دابة.. ولأن هيئتي بدت لهم أقرب تشريحيًّا إلى الإنسان وجّهوا لي كلامًا فقالوا وعيونهم تغمرها الدهشة: 
_305_

- ويلك.. ما أنت؟ 

قلت لهم بلغتهم العربية ببساطة : 

- أنا الجسّاسة. 

قالوا لي: 

- وما الجساسة؟ 

تجاهلت السؤال وقلت لهم: 

- أيها القوم.. انطلقوا إلى هذا الدير هناك.. ففيه رجل.. وإنه لخبركم مشتاق. 

بدا على القوم الذعر مني فتركوني وذهبوا مسرعين إلى ذلك الدير.. ولما دخلوه رأوا فيه رجلاً عظيم الجسد قوي النبة بشكل لم يروه من قبل في حياتهم.. الأغرب أنه كان مقيدًا بقيود لم يروا في مثل عظمتها في حياتهم.. مجموعة يداه الاثنان وراء عنقه بحديد.. وأغلال من حديد تقيد ما بين ركبتيه إلى كعبيه.. كان هذا هو سيدي "أنتيخريستوس".. ولتقييده بتلك الطريقة القاسية قصة ليس من حقي أن أخبرك عنها.. فلما رأى أولئك العرب ذلك المشهد فزعوا وقالوا : 

- ويلك.. ما أنت؟ 

قال لهم سيدي "أنتيخريستوس" : 

- سأخبركم بأمري.. لكن أخبروني ما أنتم؟ 

قالوا له : 

- نحن أناس من العرب.. ركبنا في سفينة بحرية فصادفَنا البحر في هياجه.. فلعب بنا الموج شهرًا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه.. ولما دخلناها لقينا دابة كثير الشعر لا ندري أين قُبلها من دُبرها.. من كثرة الشعر.. فسألناها ما أنت.. قالت اعمدوا إلى رجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق.. ففزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة. 
_306_

قال لهم سيدي "أنتيخريستوس" : 

- أخبروني عن نخل بيسان في فلسطين.. هل لا زال يثمر؟ 

قالوا له : 

- نعم يثمر 

قال لهم بلهجة عجيبة : 

- أما إنه يوشك ألا يثمر.. أخبروني عن بحيرة طبرية في فلسطين على نهر الأردن.. هل فيها ماء؟ 

قالوا له وهم ينظرون إلى بعضهم بنظرات مندهشة : 

- هي كثيرة الماء. 

قال لهم بلهجة مثل الأولى : 

- أما إن ماءها يوشك أن يذهب.. فأخبروني عن عين زغر في غور الأردن في فلسطين أيضًا.. هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ 

قالوا وقد بدأت كل تلك الأسئلة تريبهم : 

- نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. 

قال لهم سيدي "أنتيخريستوس" بلهجة بطيئة : 

- أخبروني عن نبي الأميين.. ما فعل؟ 
_307_

قالوا له : 

- قد خرج من مكة ونزل يثرب. 

قال لهم مضيقًا عينيه: 

- وهل قاتله العرب؟ 

- نعم قاتلوه . 

- وكيف صنع بهم؟ 

- لقد انتصر على من قاتله من العرب وأطاعوه. 

- أحقًّا كان ذلك؟ 

- نعم 

- أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه . 

ثم قال بصوتٍ قوي: 

- إني مخبركم عن أمري الآن.. إني أنا المسيح.. وإنه يوشك أن يؤذن لي في الخروج إلى الأرض.. فأخرج فأسير فيها فلا أدع فيها قرية إلا مكثت فيها أربعين ليلة.. غير مكة والمدينة.. فهما محرمتان علي كلتاهما.. كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف يصدني عنها.. وإن على كل نقب من أنقابها ملائكة يحرسونها. 

فزع منه القوم وأسرعوا وغادروا الجزيرة.. وقد ذهب واحد منهم إلى نبي الأميين "محمد" فأسلم وحكى له كل ما حدث معه من أمر جزيرتنا.. فما كان من "محمد" إلا وفرح بقوله فرحا شديدا وروى حديثه لأصحابه. 
_308_

يقول "لوسيفر" عظيم الشياطين وحامل النور الأعظم.. 

ابن الشيطان أنت يا "أنتيخريستوس".. ابن "لوسيفر".. ابن "إبليس".. وحامل نطفة النور.. لأجلك حدثت كل فتنة في الأرض إلى يوم يبعثون.. إنسي وجني أنت.. صرت فخرا للجن.. وفخر للإنس.. وفخرا لأبيك.. خلقت بين النار والطين.. في رحم يهودية.. الأرض بإنسها وجنها لا تساوي مثقال ذرة فيك.. يوشك أن يؤذن لك فيَفك قيدك فتعود وتسيح في الأرض كما كنت تسيح.. تأتيها من قبل المشرق.. من مدينة أصفهان في إيران.. وسيتبعك أول من يتبعك سبعون ألف يهودي يرتدي كل واحد منهم شالا على كتفيه يقال له طيلسان.. الشال الذي عُرف بارتدائه كبار الماسون.. من هم في الدرجة الثالثة والثلاثين.. من كوًنوا السبط اليهودي الثالث عشر.. سبط بني صهيون.. جنودك الذين جهزوا الأرض كلها لخروجك الأعظم.. رؤساء دول وحكومات ومن فوقهم ملوك المال.. وحراس السحر.. يظهرون العجائب للناس بعد أن كانوا يبطنوها.. فلن يبقى على ظهر الأرض إنسان إلا اتبعك.. إلا قليل. 

من قبل المشرق ستنزل إلى الأرض ومن أمامك شياطين.. ومن خلفك شياطين.. وعن يمينك وعن شمالك شياطين.. وهم جنود لمقامك السامي من الجن.. يكلمون الناس بأمرك.. ومن ورائك يزحف "سيربنت".. ومن أعلاك ترفرف عباءة "ماستيم".. تأمر السماء فتمطر.. وتأمر الأرض فتنبت.. وتأمر الضروع فتسمن.. تُميت من تشاء وتحيي من تشاء بقبضة فرس الرسول.. وتأمر الجن الراصدين حراس الكنوز في باطن الأرض أن يُخرجوها فتخرج لك كما تخرج يعاسيب النحل.. سيرى فيك الجن والإنس إلههم.. فسيسجدون لك.. ستعلمهم أن كلام أديانهم كله أساطير.. تتحدث عن أمور مشكوك في وجودها.. جنة خضراء ذات أنهار وجحيم أسود ساخن.. ستريهم الجنة أمام أعينهم.. وتريهم النار.. ستريهم كيف أن من يؤمن في عهدك فإنه سينال النعيم الفوري.. وليس النعيم الآجل المشكوك في أمره. 
_309_

لا تجزع.. ففور أن تقول أنك الرب.. فسيحاربك من يعبده الناس على أنه الرب.. بقدرته سيمسح إحدى عينيك فتكون ممسوحة في وجهك غير بارزة ولا غائرة.. وسيجعل عينك الأخرى عليها ظفرة خضراء تخفي بؤبؤها.. فتكون كأنها عين زجاجية خضراء.. كأنها عنبة طافية.. حينها سيعرفك عباد الرب.. ولن يتبعوك أبدا.. لكنهم قليل ولن يؤخروك قيد أنملة. 

أنت المسيح وأنت إله الإنس والجن.. وأنت ابني.. ومن عبد ابني فقد عبدني.. ومن وقر ابني فقد وقرني.. ومن وقرني أنزلت عليه عطايا لم يك حتى يتمنى أن يدركها.. انزل أيها المسيح فإن لك في كل خطوة تخطوها مني بركة.. انزل فامسح عقائد الناس التالفة وضع عقيدة واحدة.. نظاما عالميا واحدا أنت حاكمه.. انزل أيها المسيح وحقق وعدي الذي وعدته للرب قبل أكثر من عشرة آلاف سنة يوم نبذني لما أردت الخير لبني الإنسان.. وعدته أنني بما أغواني لأقعدن لابن آدم على صراطه المستقيم.. ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. ولن يجد أكثرهم على دينه.. بل إن أكثرهم سيلحقون بي إلى حيث ما نبذني.. إلى أرض السعير.. فانزل أيها المسيح.. فمن لا يقدر عملك خلال كل هذه السنين الطويلة لا يستحق الحياة. 

تمَّت 


***


_310_

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.