أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 يوليو 2018

الرئيسية رواية انتيخريستوس (3)

رواية انتيخريستوس (3)



تحليل القصة 4


حقًّا هذه الحكاية أتعبتني شخصيًا وأسقمتني.. إن الشيطان الأفعى "سيربنت" هو رمز الإغواء.. تقول عنه التوراة أنه هو الأفعى التي أغوت آدم وحواء فأنزلتهما من الجنة.. لكن الحقيقة غير ذلك.. فمن أغوى آدم وحواء هو "لوسيفر".. أما "سيربنت" فهو شيطان اختص بتدمير العقائد وإشعال الفتن والنيران في أي بلد ينزل بها. 

لم أعد أستغرب تلك المشاهد التي أراها على الشاشة دائمًا لليهود في إسرائيل وهم يقتلون الأطفال ويذبحونهم بدمٍّ باردٍ تمامًا؛ فالحقيقة التي عرفتها هي أن ذلك الجندي اليهودي لا يعتقد أنه يقتل بشريًّا.. إنما هو حسب عقيدة التلمود يقتل حيوانًا هيأه الله على هيئة بشرية.. وهذا الحيوان يزاحمه في أرضه أيضًا.. فقتله واجب.. لكن ليس كل اليهود يؤمنون بالتلمود بالطبع؛ فهناك طائفة لا تؤمن سوى بالتوراة وحدها.. وهم طائفة من اليهود اسمها اليهود القراوؤن.. بل إنهم يؤمنون بعيسى وبمحمد على أنهما نبيّا الله.. وحتى النبي "محمد" قد قال عن اليهود المعاصرين له أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم حتى قبل أن يولد. 

وبمناسبة الحيوانات الذين على هيئة بشرية.. هناك نظريات علمية نشأت في أحضان المحافل الماسونية وبرعايتها وأبرزها نظرية "داروين".. أن الإنسان أصله قرد.. لو أردت رأي خبير فهم تبنوا هذه النظرية حتى يعمقوا في أذهان غير اليهود أو الغوييم فكرة أن أجدادهم كانوا قرودًا.. أما اليهود أنفسهم فلا يؤمنون بهذه النظرية.. فبالنسبة لهم هذه النظرية فقط فسرت أصل الغوييم الحقيقي.. ولو أردت رأيي أنا شخصيًا في هذه النظرية فسأقول إنه فقط رجل بعقل بهيمة هو من يجد السلوان في الأصل البهيمي. 
_107_

أما بالنسبة للأفاعيل التي فعلتها الأفعى في عقيدة المسيحيين فأقول إنه ورغم كل التحريف الذي فاق الحد إلا أنني قرأت الإنجيل جيدًا بكافة نسخه.. ولم أجد كلمة واحدة يقول فيها المسيح "عيسى" عن نفسه أنه إله.. أو أنه ابن الله.. أو قال اعبدوني.. بل إنني لاحظت أنه ذات مرة رفض أن يناديه الناس بالرجل الصالح.. وقال إن الصالح هو الله.. وأنا أعرف أن الرجل لابد أن يقدم مزعمًا حتى يمكنني تصديقه أو نفيه.. لكن هذا المسيح عيسى لم يقدم المزعم أصلًا.. لا قال إنه إله ولا قال إنه ابن الله في أي كلمة أو حتى تلميح. 

والمفترض أن الإنسان قد وصل لدرجة من الذكاء لا تسمح له أن يقول عن رجل ما أنه إله.. فأين كان هذا الإله قبل أن يُولَد وكيف سيموت لما يأتي أجله؟ إذا لم يحصل هذا الإله على الطعام والشراب ألن يموت؟ ثم يقولون إنه مات من أجل البشرية.. فكيف مات وهو الله؟ ثم إنني قرأت أنه قد تمَّ ختانه وهو صغير.. هل لما أمسك به الحكيم ويختنه كان يختن الله؟ كيف أمسك بالله وأختنه؟ ولما كان على الصليب يقولون إنه صرخ ناظرًا إلى السماء وقال لِم تركتني؟ فهل يعقل أن يقول الإله لأحد لم تركتني؟ ثم كيف يقولون إن الله شيء والمسيح شيء والروح القدس شيء.. ثم يقولون إنهم كلهم شيء واحد وهو الله.. حقًّا لا أدري كيف فعلها "سيربنت" لكنه غيَّب عقول هؤلاء قبل أن يغيب قلوبهم. لعلي لم أخبرك.. لكنني مسلم.. ورغم أنني لم أكن كذلك إلا أنني فعلتها بعد أن عرفت كل ما عرفت. وبعد أن تبحَّرت في بحور الماسونية والسحر ما تبحَّرت.. ورغم أن الأفعى "سيربنت" قد فشل تمامًا أن يدمر عقائد الصحابة كما فعل مع الحواريين.. إلا أنه وبعد أن مرت القرون الثلاثة الأولى.. نجح سُمه أخيرًا في النفاذ إلى النفوس.. لأن جيل القرون الثلاثة الأولى هذا كان جيلًا ذهبيًا تهرب الشياطين منه بالفعل من فرط صلابته. 
_108_

فبعد القرون الثلاثة الأولى نجح سمّ الأفعى "سيربنت" أن يخرج من عباءة المسلمين فرقة كبيرة جدًّا تدعى الشيعة.. وخروج هذه الطائفة قد حدث تحديدًا بعد استشهاد "الحسين بن علي" في كربلاء. 

في البداية كانت فرقة تدعى الزيدية وهي الفرقة الوحيدة التي على صحيح الإسلام.. وهؤلاء أتباع فكر "زيد بن علي بن الحسين" وهو رجل مجاهد يتفق مع جمهور المسلمين في كل شيء لكنه يرى أن "علي بن أبي طالب" كان أولى بالخلافة من "أبي بكر".. ويعرف فضل "أبو بكر" وفضل "عمر" جيدًا كما كان كل المسلمين يعرفون فضلهما.. وترحم "زيد" عليهما قبل أن يموت. 

وبعد وفاة "زيد" رفض البعض ترحمه على "أبو بكر" و"عمر" ومن هنا بدأ الانحراف.. سميوا من رفضوا الترحم بالرافضة.. وهؤلاء انقسموا فيما بينهم إلى بضع وسبعين فرقة. 

وتاريخهم كله مشبع بالخيانات للدولة الإسلامية والتحالف مع أعدائها.. وإنني كنت متعجبًا جدًّا كيف أن تلك المذاهب الشعية كلها قد ظهرت رغم أن المسلمين اهتموا جدًّا بنقل الحديث بالأسانيد عن النبي.. ولم يتركوا سبيلًا أبدًا للتلاعب في الأمر.. لكن الحقيقة المؤسفة التي أزالت هذا التعجب هي أن المسلمين في القرون الأولى اهتموا فعلًا بنقل الحديث والفقه والتفسير ولكنهم نسوا عِلمًا شديد الأهمية.. نسوا تدوين التاريخ. 

ولما نسى المسلمون تدوين التاريخ .. نشط الشيعة في تدوينه.. واستفاضوا في تدوين أحداث الفتنة التي وقعت بين الصحابة.. والمتتبع لأسانيد روايات أحداث الفتنة يجد أن كل الروايات الطاعنة في "معاوية بن أبي سفيان" أو غيره من الصحابة أيام الفتنة.. وضعها أربعة رجال شيعة اُشتهِروا بأنهم من الوضاعين للحديث المكذوب.. والمحزِن أن رواياتهم قد انتقلت للمناهج الدراسية في بلدان المسلمين كلها فأصبح الطلبة فيها يتلقنون أن "معاوية بن أبي سفيان" فيه كذا وكذا.. وابنه "يزيد" فيه كذا وكذا.. وأبوه "أبو سفيان" فيه كذا وكذا. 
_109_

وبالنسبة للروايات التي طعنت في "يزيد بن معاوية" فكلها وبلا استثناء روايات شيعية مكذوبة الأسانيد موضوعة.. الشيء البشع أن هذه الروايات وأمثالها الكثير شوهت التاريخ تشويهًا غيرت معالمه تغييرًا جذريا وأوقدت الفتنة بين المتأخرين من الأمة؛ فيزيد بن معاوية هذا تم اتهامه بأنه رجل سكّير وعربيد وزِير نساء ولا يحق له الخلافة بعد "معاوية" أبدًا بل الأولَى بالخلافة "الحسين بن علي" وقالوا إن "يزيد" هو الذي أمر بقتل "الحسين" في كربلاء. 

والعجيب أن الرواية الوحيدة الصحيحة التي قيلت عن "يزيد" قالها عنه "محمد بن علي بن أبي طالب" نفسه.. أخو "الحسن" و"الحسين".. قال "لقد عاصرت وعايشت يزيد بن معاوية فما أنكرت عليه خلقًا قَط".. والأعجب من العجيب أن يصدق المتأخرون هذه التهم عن "يزيد".. وكأن الجيل الذهبي من الصحابة الذين كانوا يعيشون وقتها ويفتحون البلاد سيقبلون بأن يكون خليفتهم رجلًا سكّيرًا عربيدًا.. فكأن هذا طعن في الصحابة كلهم.. ويكفي أن "عبد الله بن عمر" فقيه الصحابة في ذلك الوقت قد خرج وقال "أنا بريء ممن لم يبايع يزيد بن معاوية". 

الغريب أن من اعترضَ على تولية "معاوية" لابنه "يزيد" هم ثلاثة من الصحابة فقط وهم "الحسين بن علي" و"عبد الله بن الزبير" و"عبد الرحمن بن أبي بكر".. وحتى عندما اعترضوا قالوا مقولة واحدة وهي "أقيصرية أم كسروية" فاعتراضهم كان على التوريث.. ولو كان هناك مطعن في أخلاق يزيد كما يشاع الآن.. كان الأولى أن يقولوه حينها.. لكن الروايات الشيعية بالطبع تذكر مقولات كثيرة مكذوبة على لسان أصحابها وأصحابها رضي الله عنهم منها براء. 
_110_

والآن دعنا نترك كل هذه الأحاديث العِقدية المعقدة ولنلتفت إلى الطاولة مرة أخرى.. لدينا الآن ورقتان فقط.. 

الورقة الأولى ورقة الهلوسة وعليها صورة رجل مغمض عينيه من الصداع وتتخلل رأسه بعض أطياف الهلوسة.. 

الورقة الثانية هي ورقة الاغتيال. 

وهذه الحكاية لن يحكيها أي شياطين.. فلننح الشياطين جانبًا.. الحقيقة أنني فصّلت في أمر الشيعة لأن الذي سيحكي الحكاية هذه المرة هو واحدٌ منهم.. وتحديدًا من الطائفة النزارية.. رجل من الفرقة الخطرة التي تدعى الحشاشين.. ومرة أخرى لا تسألني كيف يحكيها.. فقط استمع. 


***


_111_


فارس من عِليين ..
1000 بعد الميلاد - 1250 بعد الميلاد


لما دخلتُ جنة الخلد لأول مرة لم يكن على جسدي سوى ثوب من حرير أبيض.. يُمسك بي ملكان أبيضان شاهقا الطول.. حتى أفلتا يدي.. كان هذا يعني هلم انطلق ياصاحب الروح المرضية.. تفقد بنفسك ما أعد لك ربك من أجلك.. نظرت حولي بانبهار.. في أول لمحة رأيت نهرًا جاريًا.. كأنه نهر من لبن.. نظرت إلى الناحية الأخرى.. نخيل باسقات في أحسن صورة لها تمرها منثور على الأرض في إغراء حقيقي.. حقًّا لقد قرأت عن هذه الأمور.. إنها حقيقية.. هذا ليس حلما.. أنا واع تمامًا لما أرى.. فقط أشعر أن دماغي في حالة خدر ماتع دائم.. لكنني واعٍ.. لرائحة رائعة تسللت إليً بلا استئذان.. نظرت حولي.. كأنها عبق الجو نفسه.. الجو الذي أتنفسه. 

"الجنة تنتظركم يا ناصري آل البيت.. يا أحباب عليّ.. الجنة هنالك لا يفصلكم عنها سوى أن تدفعوا أبوابها" 

شيء آخر تسلل إليَّ بلا استئذان.. نوع من النغم المبهج.. لم أسمع في حياتي عذوبة كهذه.. نظرَت عيني ناحية النغم.. كان هناك مايشبه المدخل المصنوع من الأشجار.. ذلك النغم ينبعث من الداخل مع أصوات أخرى.. هناك أشخاص بالداخل.. شعور غريب أن تكون في جنة الخلد وتكتشف مكانًا جديدًا فتتحرك ناحيته لاستكشافه.. عالما أن ما بداخله من النعيم هو على مستوى كلمة جنة.. هذه الكلمات التي أقولها لا تصف ما أشعر به.. لكني أحاول أن أرسم المعنى بكلماتي.. تقدمت من ذلك المدخل شاعرًا بالنغم العذب يسحبني من عنقي. 

"نسبّح بحمد الأول.. ونقدّس لمُلك الآخِر.. إلهان قديمان عظيمان لا أول لوجودهما ولا ثالث" حقا كان ما بالداخل مُبهرًا.. كانت المرة الأولى التي أذوق فيها معنى كلمة السعادة.. كانت روحي سعيدة.. منتشية.. تشعر بالمرح.. وقد زادت السعادة والمرح أضعافًا مضاعفة لما دخلت إلى ذلك المكان.. غشيَت أذناي ألحان أصبح صوتها واضحاً الآن.. ورأيت الكثير ممن أعرفهم.. إخوة العقيدة.. 
_115_

أراهم يتكئون على أرائك وتتكىء بجوارهم فتيات جميلات هن أجمل مما يُسمَح بوصفهن.. يلاعبونهن ويضحكن معهن.. كن يرتدين أثوابًا ذات ألوان فاتحة.. حمراء بعضها وبعضها بيضاء.. رأتني فتاتان وأنا أدخل إلى هذا النعيم فسارعتا بالتقدم إليً وعليهما أجمل ابتسامة رأيتها على ثغر.. ومدتا يداهما إليَّ بأنوثة لم أذقها يومًا من قبل.. وسحبتاني برقة لأنضم إلى الجمع السعيد. 

"اقتلوا الخليفة حتى وإن قُتلتم.. فإن قتلتموه دخلتم الجنة.. وإن قُتلتم دخلتم الجنة أيضًا" أجلستاني على إحدى الأرائك.. ثم إنهما قبّلتا يدي برقة.. أرجوكما قولا لي إنني لا أحلم.. فإن كنت لا أحلم أخبراني أنني لم أسكر.. وإن كنت لم أسكر ففسرا لي لماذا أشعر أن دماغي منتشية.. لم أكن أعلم أن الجنة فيها نعيم حتى للدماغ.. والدماغ نعيمها الانتشاء.. ذلك الانتشاء العظيم الذي أذاقتاني إياه لأول مرة في الدنيا شيخ الجبل.. الإمام الأعظم.. "الحسن الصباح". وهنا رأيته يدخل إلى هذا الجمع الجميل بنفسه.. الإمام الأعظم بنفسه.. يالهيبة هذا الرجل.. أذكر ذلك الشاب الذي أمره الإمام الأعظم أن يقف على سور قلعة "ألاموت" ويرمي بنفسه.. فصعد الشاب فورًا ورمى بنفسه من فوق سور القلعة إلى الهُوّة السحيقة التي تطل عليها فمات.. كان الإمام قد أمره بهذا ليُرِي أحد الزائرين الصليبيين الذين زاروه في قلعته كيف أن أتباعه يُخلصون له ولو على حساب حياتهم.. لابد أن هذا الشاب يمرح في أحد ربوع جنة الخلد الآن.. لم يفهم ذلك الصليبي لماذا كنا مستعدين لقتل أنفسنا بروح طيبة.. ولو أنه رأى ما أراه الآن لفهم. 

قال لنا الإمام الحسن الأعظم : 

- يا أنصار الله.. إن كل هذا النعيم الذي تنعمون به هو أدنى أدنى درجات النعيم التي وعدكم بها ربكم.. ودرجات عليين لا ينالها سوى الشهداء وحدهم.. وإنني أتيتكم اليوم لأقدم لكم واحدة من الفُرَص العظيمة لتنالوها.. الشهادة الشهادة يا مؤمنين.. من يريد الشهادة؟! 
_116_

وقفنا جميعًا كلنا يريد أن يكون هو المختار.. لو كان هذا النعيم بهذه الروعة فكيف بما هو أعلى منه.. لا تتحمل نفسي إلا أن تناله.. ولحُسن حظي.. اختارني الإمام هذه المرة. 

كانت واحدة من الفرص التي يهبها الإمام لمن يحب منا بين الفينة والأخرى.. أن ننزل من الجنة إلى الحياة الدنيا لنُنهي شرًا من شرورها العظام.. فإما أن نقتل أحد الخلفاء العباسيين الذين هم في الحقيقة أعداء الله ورسوله كما تعلَّمنا.. أو نقتل أحد الصليبيين الذين هم أعداء الله ورسوله أيضًا.. أو ربما نقتل أحد العلماء الذين يبثون أفكارًا مسمومة في أذهان الناس فهم أخطر على عقيدتهم من الخلفاء.. لكن هذه المرة لم تكن المهمة مهمة قتل.. كانت مهمة بسيطة جدًا.. كان عليَّ أن أسلِّم رسالة إلى "لملك "أموري" ملك القدس الصليبي.. كم أنا محظوظ.. أنا أعشق إمامنا الذي أرسله لنا ربنا حتى يأخذ بأيادينا إلى طريق الحق.. من حقنا أن يكون لنا إمام كما كان لكل قوم نبي في السابق.. من حقنا أن يكون لنا إمام معصوم مكلف من قبل الله.. يأمرنا وينهانا ويشرّع لنا ويعلمنا باسم الله. 

كان الطريق طويلًا جدًّا في الواقع.. كنت أركض بفرسي العربية الأصيلة باتجاه القدس وأمامي حوالي الشهر لأصل إليها.. والنجوم فوق رأسي تدلني على الطريق.. وخواطر كثيرة تجيء على ذاكرتي وتروح.. خواطر تشعرني بالفخر.. تذكرت نشأتي في قلعة ألاموت العظيمة.. كيف كنت صغيرًا يتيمًا ضائعًا هزيلًا فجاء من وسط ظلمة الليل والتقطني وأسكنني في قلعته.. بل أسكننا في قلعته.. أنا والكثير جدًّا من الأطفال المشردين.. لقد قدَّم لنا إمامنا المأوى.. بل قدَّم لنا ماهو أكثر من ذلك. 
_117_

لقد علَّمنا كل شيء منذ كنا أطفالًا صغارًا.. علَّمنا الفروسية والمبارزة وركوب الخيل والقتال بالأيدي العارية والخناجر والرماح.. علَّمنا الرماية بالسهم والخنجر والرمح.. علَّمنا الرجولة والتحمُّل والصبر وسرعة البديهة في القتال.. علَّمنا الإخلاص.. علَّمنا دين الشيعة.. شيعة "علي".. شيعة آل البيت.. علَّمنا أن نكون بلا مشاعر فيما يتعلق بأعداء الدين الكفرة الفجرة عابدي أقدام النساء وفروجهن.. خلفاء بني العباس ومن يوالونهم. لقد كان الإمام يُطعمنا ويسقينا أطيب مطعم ومشرب.. وأجمل ما كان يسقينا إياه شراب عطر الرائحة.. شراب يجعلنا نرتفع بعقولنا فوق عقول البشر.. شراب ينمّي ذكاءنا وإدراكنا وذاكرتنا.. تذكرت الشراب فمددت يدي في رحلي وأخرجته فشربت منه حتى ارتوى دماغي.. كنت أشعر بالفخر.. لقد أصبحت مقاتلًا فذًّا قويًّا مخلصًا؛ لقد جعلني الإمام أقوى شيء في الدنيا.. فأردت أن أكون أقوى شيء في الآخرة.. وقد أوصلني الإمام إلى ذلك فدخلت الجنة.. وكان لدخولي فيها قصة عظيمة تذكرتها الآن.. دعني أحكيها لك تزجية للوقت. قبل حوالي ثلاث سنوات من الآن.. في قرية قُرب نهاوند.. كنت أتابع ركب السلطان بعناية شديدة منذ أن انطلق من أصبهان.. كان في الركب وزيرٌ من وزراء الدولة العباسية اسمه "نظام الملك".. سلجوقي من السلاجقة الذين سمح لهم خلفاء بني العباس بتقلُّد مناصب حاكمة في البلاد.. كان "نظام الملك" هذا هو هدفي.. لقد أعاق هذا الرجل تقدُّم دولتنا النزارية وعطَّل أهدافها السامية في تحطيم الخلافة العباسية.. وفجأة توقف الموكب.. ورأيت هدفي ينزل من على جواده.. ثم نزل الركب كلهم من على جيادهم. 

تحلَّق الركب حول "نظام الملك" وكان يحدثهم في أمرٍ ما ويسمعونه باهتمام شديد.. يبدو أن فرصتي التي طال انتظارها قد حانت أخيرًا.. لو لم أفعلها الآن سأنتظر وقتًا كبيرًا قبل أن أتمكن منه.. أخفيت فرسي وخلعت عباءتي التي كانت تغطّي ملابسي ورأسي.. كانت ملابسي التي أرتديها تحت العباءة ملابس شحاذ.. 
_118_

ومسحت بالتراب على شعري وجعلته شعثًا.. ثم إنني تحسست خنجري المخفي تحت ردائي واقتربت من الركب بخطوات شحاذ. 

- لقد قُتِل هاهنا ياسادة، في هذه القرية نفر كثير من صحابة رسول الله.. فطوبى لمن كان مسكنه هنا.. وطوبى لمن لحق بهم حيثما هم في عليين. 

هذا الوزير الثعبان.. ماذا يعرف عن عليين حتى يتحدث عنها.. وهؤلاء الحمقى يستمعون له كما لو كان نبيًّا.. توجهت مباشرة إلى هذا الوزير الثعبان واصطنعت الذلة والمسكنة وقلت له : 

- ياسيدي.. يظهر على محياك الطيبة والخير.. أعطني مما تجود به نفسك الطيبة.. أرجوك ياسيدي. 

- لا تعطه شيئًا ياسيدي.. يبدو محتالًا بصحة جيدة. 

- بل سأعطيه.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطوا السائل وإن جاء على فرَس".. ورُوى عن عيسى بن مريم عليه السلام قوله "إن للسائل لحقٍ وإن أتاك على فرس مطوَّق بالفضة" 

وظلَّ يتحدث وينظر إليهم حتى أسكتته طعنة نجلاء من خنجري.. سكت على إثرها ونظر لي نظرة مذهولة.. ثم إن بعض الركب انشغل باحتضار الوزير وبعضهم أخرجوا سيوفهم لقطع رأسي.. لكن أوقفتهم كلمة من الوزير قالها قبل أن يموت : 

- لا تقتلوا قاتلي فإني قد سامحته. 

لم أنتظر لحظة واحدة.. تحولت ذلتي ومسكنتي في برهة إلى التفافة وانطلاقة سريعة بارعة، كنت واثقًا أنهم ليسوا بمُدرِكيها ولو حرصوا.. تذكرت هذه الواقعة وتذكرت عودتي إلى قلعة ألاموت بعدها واحتفاء الإمام المعصوم "الحسن الصباح" بي وبما حققته ببراعة.. ثم إنني نمت تلك الليلة فلم أستيقظ إلا وملكان يأخذان بيدي ويُدخلاني إلى جنة الخُلدِ.. الآن فهمت مقصد الإمام الأعظم لما كان يقول " فإن قتلتموه دخلتم الجنة.. وإن قُتلتم دخلتم الجنة أيضًا". 
_119_

ظللت أجتر ذكرياتي حتى وصلت إلى هدفي.. القدس.. قصر الملك "أموري" الصليبي ملك القدس أيامها.. دخلت على الملك الصليبي وسلمته رسالة الإمام الأعظم.. كان فيها "إلى الملك العظيم أموري.. إذا أتتك رسالتي هذه فاعلم بأني من الموالين لك.. وإني أعرض عليك أن نوحِّد القوى في مواجهة عدو مشترك يقض مضجعنا أنا وأنت.. الدولة العباسية الغاشمة المغرورة.. وإن أتباعي المخلصين على أتمّ استعداد أن يكونوا رهن إشارة قيادتكم الباسلة لفرسان الهيكل.. على أن يتم إلغاء الضريبة السنوية التي فرضها فرسان الهيكل علينا والتي مقدارها اثنا عشر ألفَ قطعة ذهبية فرضوها بعد أن قتل رجالي "كومتي دي تريبولي".. على أن يكون هذا بداية للتعاون فيما بيننا للقضاء على العدو المشترك.. والله ولي التوفيق". 

وافق الملك "أموري" على التعاون.. يبدو أن الإمام لديه خطة رائعة من خططه التي لا تفشل أبدًا.. لأن الله أوحى بها إليه.. لم يكن هذا يعنيني كثيرًا.. كنت منشغلًا بفرحة قلبي بأن مهمتي قد تكللت بالنجاح.. ولما أعود إلى الإمام سأرى جنة من جنات عليين التي طالما حلمت بالارتقاء إليها.. ركبت على فرسي عائدًا إلى قلعة ألاموت.. وذهني يفكر في النعيم.. والأنغام.. وأنهار اللبن التي تستلقي على ضفافها الحور العين.. وفي الفاك.. 

- أتاني نبأ بأنكم لا تُقهرون يا فرسان نزار. 

التفت بحركة سريعة متحسسًا خنجري.. رأيت فارسًا يرتدي عباءة مميزة تتوسطها علامة الصليب.. عباءة تغطي جسده ورأسه.. يمتطي حصانًا قويًّا عليه عباءة الصليب نفسها.. أعرف هذا الزِّي جيدًا.. كان فارسًا من فرسان الصليب.. فرسان الهيكل.. تحفزت حواسي القتالية كلها ونظرت له بحذر.. قال لي بصوتٍ غاضبٍ: 
_120_

- إذن فأنتم تظنون أننا نحتاج إلى عون بضعة فرسان من ورق أمثالكم.. هل نسي زعيمكم الغبي نفسه؟ 

قلت له بلهجة قوية : 

- اذهب من هنا أيها الصليبي القذر.. وكلمة أخرى عن إمامنا سأجعلك تتجرع دماءك. 

رمى الفارس عباءته بعيدًا وهجم عليَّ هجمة سريعة رفع فيها سيفه وصهل فيها حصانه.. قفزت متخليًا عن حصاني إلى الوراء مبتعدًا عن سيفه اللامع ودرت حول نفسي دورة رميت فيها عباءتي واستللت فيها خنجري الذي رميته بحركة خاطفة لم يتوقعها ليستقر الخنجر في عنق حصانه الذي ارتفعت قوائمه في ألم. 

نزل الفارس عن حصانه في بساطة بارعة ووقف أمامي باستعداد.. هنا رأيت وجهه لأول مرة.. كان أعورًا ذا ملامح قاسية كأنها الصخر.. قال بصوت مخيف : 

- أخبر إخوانك في الجحيم الذي سأرسلك إليه أن الفارس "جاوتير مايزنيل" هو الذي أرسلك أيها الحثالة. 

وركض ناحيتي بجسده المفتول ورفع سيفه الغاضب للمرة الثانية.. أزحت جسدي جانبًا بتوقيت مذهل لأبتعد عن ضربة سيفه وتدحرجت على الأرض بخفة أجيدها.. واستللت سيفي من حزامي.. ونظرت له بتحفُّز.. كان ينظر لي بسخرية لم أفهمها في اللحظة الأولى.. لكني فهمتها لما رأيته ينظر ورائي.. نظرت ورائي بسرعة.. كانت هناك عشرة عيونًا ساخرة تنظر لي وقد استل أصحابها سيوفهم من جيوبهم.. لم تكن عيونًا لأشخاصٍ عاديين.. كانت عيونًا لفرسان آخرين.. من فرسان الهيكل. 
_122_

نظرت له مرة أخرى في غضبٍ.. لكنه لم يُمهلني.. كانت التفاتتي إلى الوراء كافية لأن يقطع المسافة التي بيني وبينه.. واللحظة التي أعدت فيها نظري إليه كانت كافية لأن يمسك بسيفه ويغرزه في صدري.. سقطت على ركبتي.. فرفع حذاءه باحتقار ودفع السيف المغروز في صدري لينغرز أكثر ويخرج من ظهري. 

إن اللحظة التي تدرك فيها أنك ستموت الآن هي لحظة مخيفة جدًا.. تتوقف فيها عن رؤية أي شيء يدور حولك.. لأنها تكون مشغولة برؤية شيء آخر.. في البداية تًعرض عليك حياتك كلها بكل ما فيها ومن فيها في عرض مدته بضع ثوانٍ.. وبعد أن ينتهي العرض ويُسدَل الستار تبدأ في النظر حولك.. ثم تتحسس موضع طعنتك.. ثم تشعر شعورًا عجيبًا.. تستجمع نفسك وتقرر أنك لن تموت.. لن تؤثر فيك كل هذه الدماء والآلام.. طالما أنك تتنفس فلن تموت.. لازلتُ راكعًا على ركبتي.. كان الفرسان يتحدثون بصوت عالٍ ويضحكون.. رفعت رأسي إليهم.. سأهزم الموت.. كل من ماتوا استسلموا له لكنني لن أفعل. 

"فإن قتلتموه دخلتم الجنة.. وإن قُتلتم دخلتم الجنة أيضًا" الجنة.. جنة الخلد.. القيان والغانيات والأنهار.. سأدخلها كما وعدني الإمام إذا قتلوني.. وهنا شعرت بضيق شديد في نفسي.. وبقبضة في قلبي.. ثم سعلت دمًا.. شهقت بكل ما أوتيت من عزم حتى أتنفس تنفُّسًا طبيعيًّا لكنني لم أقدر.. حاولت بكل عزم أن أطرد كل هذا الوهن عن جسدي لكني لم أقدر.. عرفت أنها نهايتي.. سأموت.. سأنام على جنبي على هذه الأرض وأموت. 

وفعلا رقدت على جنبي ونظرت إلى المشهد المقلوب أمامي.. أقدام جياد.. تراب.. حشرة ما تمشي على الأرض.. ستحتفظ كل هذه الأشياء بحياتها بينما سأموت أنا.. سمعت صوت حوافر جياد فرسان الهيكل وهي تمشي مبتعدة ببطءٍ.. نظرت ناحيتهم.. بدأ أهالي المنطقة يقتربون منِّي.. أخيرًا.. أتمنى أن يُنقذني أحدهم.. اندفع بعضهم إليَّ وحاول أحدهم أن ينتزع السيف عن جسدي ببطءٍ ونجح في ذلك.. ثم أراحونني على أياديهم.. رأيت الكل قد تحلقوا حولي.. نظرت لهم بعين زائغة.. نظرت إلى وجوههم العربية المشفقة على حالي.. كيف هو شعورك وأنت ترى مئة شخص ينظرون إليك بشفقة وأنت تموت.. لكن من هذا الرجل هناك؟ من بين رؤوس الناس كنت أراه.. أسودا كان.. يمشي الهوينى ناظرًا إليَّ نظرة جامدة.. تابعته ببصري حتى خرج عن مجال حركة عيني ورقبتي وصار ورائي.. كان الناس يمسكون برأسي من حينٍ لآخر يربتون عليها ويطمئنونني.. ثم وضعوا رأسي على الأرض بهدوء حتى واجهت عيني السماء.. أرى رؤوسهم من من زاوية سفلية.. ثم برزت رأسه فجأة وسطهم.. ذلك الأسود. 

كنت مخدوعًا يعرف يقينًا أنه مخدوع.. لكنه يكابر.. كنت أعرف أن شيئًا ما خطأ.. الإمام الأعظم.. جنة الخلد.. قتل علماء المسلمين.. مهادنة الصليبيين.. عدم الصلاة ولا الصوم ولا الحج لأننا وصلنا لمرحلة من القرب من الله أسقطت عنا كل التكاليف.. يقنعنا أننا متنا ويدخلنا جنة الخلد ثم يعيدنا من الموت متى يحلو له ويظن أننا نصدقه.. لا أنكر أنه اختلطت عليَّ الأمور أثناء وجودي في جنة الخلد تلك.. لكن عقلي لم يكن في مكانه.. كنت أشعر دائمًا أنني سكران أو طائر فوق الناس.. لقد أعطانا الإمام كل المتع والنساء وأسقط عنا كل الواجبات.. ياله من دينٍ رائعٍ ذلك الذي يدعو إليه.. وافق دينه هوانا وإن لم تتقبله عقولنا لكن كنا نرمي عقولنا وراء ظهورنا. 

لن تكون لي جنة اليوم بل ستكون لي نارٌ يلفح لهيبها روحي.. يا إلهي إنما هي ساعة.. لو تؤخرني إياها أعود فيها إلى رشدي.. بل وسأقتل فيها ذلك الإمام بيدي.. ثم أظلمت الدنيا كلها ووجدتني كأن كياني كله يتحرك بسرعة غير طبيعية.. ثم فطنت إلى أن هذا ليس ظلامًا لكنه شيء وكأنه نفق من الظلام تتحرك روحي فيه.. ثم وجدتني فجأة أخرج من النفق إلى نور الأرض ثانية.. ونفس المشهد تراه عيني من زاوية سفلية.. رؤوس تنظر إلي في قلة حيلة. 
_123_

أي عجب هذا.. اعتدلت على جنبي هاربًا من الزاوية السفلية الغير مريحة للرؤية والتي تظهر الناس كلهم وكأنهم عمالقة.. هكذا أفضل.. الناس لازالوا يتحدثون بأسى وينظرون إليَّ أو إلى الأرض.. لكن أحدهم يقترب مني.. عجوز.. كان على وجهه شبح ابتسامة ساخرة.. ظلَّ يقترب حتى صار عند رأسي.. تحول شبح الابتسامة إلى ابتسامة ساخرة كاملة ظهرت فيها أسنانه القليلة.. وشعيرات ذقنه المعدودة الطويلة وانشقت عيناه كعيني ثعبان.. اتسعت عيناي عن آخرهما.. ونظرت بعيدًا.. خفت النور في المكان كله وكأن سحابة سوداء حجبت نور الشمس.. إنه الموت.. إنه الموت يا إلهي إنه الموت. 

أخذت أتلوى على الأرض محاولًا إخفاء وجهي والناس من حولي يتبرعون بتعديل وضعي ثانية ظنًا منهم أنهم يساعدونني بشكل ما.. (قل لا إله إلا الله).. ظلَّ شيء ضخم مرَّ على عيني فنظرت في كل مكان بذعر ولم أجده.. (أيها الفارس قل لا إله إلا الله). . وجه العجوز الثعبان يبدو لي بين وجوه الناس وكأنه الوحيد المسلَّط عليه الضوء.. ويُخرج لي لسانه المشقوق.. من هذا ياربي هل هو ملك الموت؟ يارب أرجوك أعدني.. لا تفعل بي هذا. . 

حاولت أن أُخرِج صرخة بكل قوتي لكنها خرجت سعالًا. . فلينقذني أحدكم.. أو ليقتلني أحدكم.. لا أريد أن أرى ما أنا مقبل على أن أراه.. فليفقأ أحدكم عيني.. فلتقرأوا عليَّ قرآنا ربما يشفع لي.. افعلوا أي شيء.. 

بدأت عضلات معينة في جسدي تتشنج لتجبرني على اتخاذ وضع معين.. انضمت ساقاي على بعضها وتقوس ظهري قليلًا وتشنجت رقبتي إلى اليسار.. شعرت باختناق داخلي لا علاقة له برقبتي.. اختناق في الصدر.. بدأت أسمع دقات قلبي بوضوح.. ثم رأيته.. بل رأيتهم. 
_124_

كانوا ثلاثة.. أحدهم هو ذلك الأسود الذي رأيته يمر بين الناس.. والاثنان الباقيان أحدهما أسود كأخوه والآخر يختلف عنهما في كل شيء.. كنت أرى ملائكة.. ملائكة حقيقيين.. ليسوا كالملائكة البشريين الذين رأيتهم في جنة "الحسن الصباح".. يالهذا الاسم القميء.. كم أكرهه. 

إن ما حدث بعد ذلك لهو مما لا يُحكَى ولا يُقَال.. اقتٌلعت روحي منِّي كأنما تقتلع سفودا مسننا من صوف مبلول.. يشدها ثلاثتهم بأيادٍ غليظة شديدة.. ووَجدتُ من روحي رائحة منتنة كأنها القبر.. يا إلهي هل أنا بهذا السوء.. إن الألم الذي شعرت به لم يكن يراه أحد.. فقط وجدوا من وريدي انقطاعًا عن النبض ومن عيني انقطاعًا عن الحياة.. لم يرَ أحدهم شيئًا.. ورأيتُ روحي وهي تخرج من جسدي المحاط بالناس.. تخرج وترفعها الملائكة ويضعونها في خرقة سيئة.. ثم رأيتني أرتفع بسرعة حتى اختفى كل أثر لكل موجود من موجودات الأرض.. وحلت محلَّها موجودات أخرى لم ترها عين بشر من قبل.. موجودات لا ينبغي أن يعرفها بشر.. إلا إذا ماتوا. 

تمَّت 


***


_125_


تحليل القصة 5


لقد بدأت الساعات الباقية لي في هذا العالم تقل.. وبدأت دقات الساعة تقول لي كلامًا مخيفًا.. لكن لابأس.. لازال أمامنا وقت كافٍ.. لقد كانت تلك المواجهة من المواجهات النادرة التي ذكرتها كتب التاريخ بين أخطر نوعين من أنواع الفرسان.. فرسان الهيكل.. وفرقة الحشاشين أخطر فرق الشيعة على الإطلاق.. الفرقة التي اتخذت من قلعة "ألاموت" مقرًا رئيسيًّا لها.. بالإضافة لسبعين قلعة أخرى في فارس والعراق والشام. 

فقط لو كنت تعيش أيامها ونظرت إلى قلعة "ألاموت" من أي زاوية تشاء.. فسترى منظرًا أسطوريًا.. كانت القلعة تبدو وكأنها مأوى الجن.. فهي قلعة على ارتفاع ستة آلاف قدم تحيط بها الغيوم التي تتداخل مع أبراجها.. بلغ من ارتفاعها أنه يستحيل أن تصل إليها قذيفة منجنيق.. ويستحيل أن يزحف إليها جيش من الجنود إلا أن يصعدوا إليها في ممرات جبلية ضيقة جدًّا تَضطرهم للصعود رجلًا وراء رجل.. قلعة كبيرة لا يذهب ظنك أنها مكونة من مبنى واحد.. بل هي مكونة من عشرات المباني.. قلعة كان "الحسن الصباح" مؤسس الحشاشين يتخذها سكنًا له.. قلعة صمِّمَت بداخلها جنة غناء يُدخل فيها أتباعه. 

لم يغادر "الحسن الصباح" هذه القلعة في حياته أبدًا منذ أن استولى عليها أول مرة.. ولم يُر خارجًا منها حتى إلى الجبال التي حولها.. كان يقضي معظم وقته في التخطيط بالداخل.. وفي الدراسة والتجارب على النباتات التي كان خبيرًا بها وبأنواعها السام منها والمخدر.. وقد ابتكر خلطة مخدرة خاصة جدًّا كان يمزجها بالخمر بكميات مدروسة ويعطيها لأتباعه يشربونها فتغيب منها عقولهم فيسيرهم كيف يشاء. 

وبلغ من قوته أنه كانت هناك نقود خاصة مطبوع عليها اسم قلعة "ألاموت".. أي أنه كون مجتمعًا مستقلًا.. كانت معتقداته شديدة الانحراف.. وأولها عقيدة القتل باسم الدين.. وهي عقيدة خاطئة بالطبع.. فالقتل دفاعًا عن الدين هو أشرف شيء وأغلى شيء ولكن الاغتيال باسم الدين هو جريمة. 
_127_

استخدم الحشاشون طريقة الاغتيالات بدلًا من طريقة الحروب.. وقد حاولوا اغتيال "صلاح الدين" ثلاث مرات باءت كلها بالفشل.. وقد انتهى عهدهم لما نزل المغول من الشرق نزول الأكلة المفترسين الذين أبادوا كل شيء في طريقهم.. أبادوا فرقة الحشاشين عن بكرة أبيهم.. ومن تبقى منهم بعد ذلك اقتلعه "الظاهر بيبرس" اقتلاعًا. 

ولعلك قد سمعت بلعبة الفيديو الشهيرة Assassins Creed .. أو عقيدة الحشاشين.. وهي مقتبسة من فرقة الحشاشين الحقيقية بأزيائهم وأسلحتهم ومهاراتهم وشرورهم. 

أعرف أن الحديث عن العقائد المنحرفة يورث السم في البدن.. ولقد انتهت بهذه الحكاية حكاياتنا عنهم.. وانتهت الأسقام والأوجاع.. ولننظر إلى أوراقنا في لعبتنا التي أرفض حتى الآن أن أذكر لك اسمها.. لدينا هذه المرة ورقتين فقط.. لكنهما يكفيان جدًّا لفهم مانحن مقبلون على كشفه. 

الورقة الأولى هي ورقة الفامباير أو مصاصي الدماء.. وعليها صورة بشعة لمصاص دماء مخيف.. والورقة الثانية هي ورقة الكونت "دراكولا".. وعليها صورة الكونت دراكولا وهو يرتدي عباءته الشهيرة ويبتسم في سخرية مخيفة ووراءه تبدو قلعته المظلمة. 


***


_128_


اقرأ يا "دراكولا" ..
1450 بعد الميلاد


- اقرأ يا "دراكولا" يا عزيزي هيَّا ورائي..(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. وهو ألد الخصام ). 

ردد "دراكولا" وراءه في ملل ونطق أعجمي.. نظرت إلى وجهه.. لا أدري لماذا لا أرتاح لهذا الفتى.. 

- انتبه معي هنا.. فيم يسرح عقلك الصغير.. هيَّا ردد (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) 

من السيء أن يكون "دراكولا" أخاك.. من السيء أن ينام "دراكولا" بجانبك.. من السيء أن.. 

- (ويهلك الحرث والنسل.. والله لا يحب الفساد ) 

ظلَّ "دراكولا" يردد الآيات والشيخ يقرأها.. واضح أن "دراكولا" يكره الشيخ.. هذا ليس غريبًا.. فأخي يكره الجميع.. يكرهني ويكره هذا المكان ويكره القرآن.. بالإضافة إلى أن هذا المشهد جعلك ترفع حاجبيك في دهشة ثم تخفضهما في سخرية؛ ظانًا أنني أحكي قصة كوميدية.. لا ياصديقي.. ها أنا ذا.. "رادو" بشحمي ولحمي أجلس في هذا المسجد وهاهو أخي "دراكولا" بشحمه ولحمه يجلس بجانبي يردد آيات القرآن والشيخ يصرخ فيه وقد بدأ كل هذا الغباء يضايقه. 

دعني أحكي لك الحكاية منذ البداية حتى يزول عنك العجب.. إن أبي كان حاكمًا على مملكة والاكيا.. وقد أطلق عليه شعب والاكيا اسم "دراكول" وتعني بالرومانية التنين.. هذا لأن والدي كان عضوًا مؤسِّسا في تنظيم سري مريب من الفرسان يدعى تنظيم التنين.. وقد وضع أبي رمز التنين هذا على العملة في والاكيا وعلى الدروع الحربية أيضًا.. فشاع بين الناس تسميته التنين.. "دراكول" أو دراجول كما ينطقها الأهالي في والاكيا. 
_131_

- سيد "دراكول" إنها رسالة من السلطان العثماني يا سيدي. 

- هاقد بدأت المشاكل.. وكل ذنبنا أن والاكيا بين مطرقة العثمانيين وسندان الهنغاريين.. يريدون الفتك ببعضهم البعض.. وفي سبيل هذا فلتذهب والاكيا إلى الجحيم. 

قرأ "دراكول" رسالة السلطان باهتمامٍ شديدٍ.. إن الدولة الإسلامية تفرض عليه الجزية لتحميه من الهنغاريين وتشترط عليه أن يمدهم بالمقاتلين لو احتاج الجيش المسلم إلى المقاتلين.. وتطلب منه سرعة الرد والبرهان على الولاء.. وقد كان البرهان الذي اختاره والدي غريبًا جدًا.. لقد أرسلني أنا وأدعى "رادو" وأخي الأكبر "دراكولا" إلى أدريانوبل أو إدرنة.. معقل السلطان العثماني المسلم. 

- تعلم من أخيك "رادو".. لقد حفظ عشر سور حتى الآن.. ولم تحفظ أنت آية واحدة يا "دراكولا". 

كان أقوى برهان على الولاء.. فيستحيل أن تهاجم دولة وقد أرسلت فلذات كبدك إلى سلطانها.. وجدنا أنفسنا أنا و"دراكولا" وعمرنا لم يتجاوز الثانية عشرة غرباء في بلاد غريبة.. ومبان غريبة.. وألبسة غريبة.. وعمائم طويلة.. ولحى.. وقصور. 

كان أخي كارهًا لكل هذا السخف.. ورغم أن السلطان المسلم كان يهتم بنا جدًّا ويعلمنا الفروسية والقتال والعلوم بكافة أنواعها وخاصة الإسلامية منها إلا أن "دراكولا" لم يكن سعيدًا.. كان يشعر أنه مجرد أسير.. وأن هؤلاء أعداؤه يحاولون أن يسقونه بتعاليمهم وثقافتهم التي يكرهها ولا يستسيغها.. لكن بالنسبة لي كان الوضع مختلفًا. 

- ما اسمك أيها الفتى الظريف ذو الشعر الذهبي ؟ 

- اسمي "رادو" وأنت؟ 

- أنا "محمد بن مراد" ابن السلطان. 

لم أكن أعرف أنني سأعيش طفولتي مع "محمد بن مراد".. الرجل الذي عرفه الناس بعد ذلك بسنوات بمحمد الفاتح.. الفارس العظيم الذي فتح القسطنطينية.. 
_132_

كنت أنا و"محمد الفاتح" صديقين عزيزين.. وكلما اشتدت صداقتي معه قوة.. اشتدت عداوتنا أنا وهو مع "دراكولا".. إن "دراكولا" و"محمد الفاتح" لم يكونا يطيقان بعضهما منذ الصغر رغم أنه قد فُرِضَ عليهما أن يعيشا طفولتهما معًا.. وأن يتدرّبا معًا ويتعلّما معًا.. لم يكن هذا غريبًا أبدًا.. فأحدهما كان فارسًا حقيقيًّا وكان الآخر شيطانًا حقيقيًّا. 

- هيَّا ارمِ سهمك يا "رادو".. ارمِ سهمك . 

رميت سهمي فأصاب منتصف اللوحة الدائرية.. يالبراعتي منذ صغري.. ضربت كفي في كف "محمد الفاتح" ووقفت بجانبه سعيدًا أنني اقتربت من مهارته الفطرية. 

- دورك يا "دراكولا".. هيَّا ارمِ سهمك. 

صوَّب "دراكولا" سهمه ناحية اللوحة الدائرية.. ثم حوَّل قوسه فجأة ناحيتي أنا و"محمد الفاتح".. ونظر لنا بغِل.. واتسعت عيناي في رعب. 

- ماذا تفعل يا "دراكولا".. هل جننت؟ 

شد "دراكولا" سهمه وقوسه مصوَّب إلينا ثم أطلقه فجأة.. لم يطلقه ناحيتي.. بل حوَّله في الثانية الأخيرة إلى اللوحة.. وأصاب سهمه منتصف الهدف بالضبط.. شعرت أنه كان يتمنى لو أن هذه اللوحة هي قلب "محمد الفاتح".. أو ربما قلبي أنا. 

ست سنوات مضت ونحن على هذه الحال.. كبرنا وأصبحنا شبابًا يافعين.. وها نحن نتسابق ثلاثتنا على جيادنا العربية الأصيلة بكل قوة.. هل ترى كيف أصبحت أشكالنا الآن؟ لقد كان شكلي مميزًا جدًا.. كنت أمتلك شعرًا ذهبيًّا فاتحًا جدًّا.. حريريًّا طويلًا ينحدر إلى أسفل كتفيَّ لا تمتلكه أجمل فتيات إدرنه.. ووجها وسيمًا وصوتًا رجوليًا مميَزًا.. بينما كان "دراكولا" أسود الشعر أجعده.. ينحدر شعره إلى أسفل منكبيه أيضًا.. لكن كان له شارب كبير يقف عليه الصقر كما يقولون وعينان حادتان كأنهما عينا الصقر الذي كان سيقف على شاربه.. "محمد الفاتح" كان ذا لحية صغيرة مدببة وشعر بني وأنف طويل وعينين تشعان ذكاء وفروسية. 
_133_

ثم أتى الخبر الذي حرك كل هذه المشاهد البطيئة.. لقد توفى أبي "دراكول" فجأة في والاكيا.. مؤامرة دبرها له البويار.. وهي كلمة تطلق على طبقة النبلاء في بلادنا والاكيا.. نزل علينا هذا الخبر ونحن في أشد فترات الدولة العثمانية انشغالًا.. كنا على استعداد وتخطيط لفتح أكثر المدن حصانة في ذلك الوقت.. القسطنطينية.. وأنا أتحدث بكلمة (نحن) لأنني أصبحت مسلمًا.. بل فارسًا مسلمًا.. لكن "دراكولا" بقى على دينه.. أرسل السلطان محمد الفاتح "دراكولا" إلى والاكيا ليصير حاكمًا لها خلفًا لأبيه.. ويكون كما كان أبوه تابعًا للسلطان العثماني ومؤتمرًا بأمره.. أما أنا فقد آثرت البقاء هنا.. آثرت أن يكون لي شرف المشاركة في الفتح الكبير لقسطنطينية. 

كانت وليمة عظيمة في والاكيا.. وليمة كان المضيف فيها هو الكونت "دراكولا".. والضيوف فيها هم أكابر البويار.. الذين أكلوا حتى ثملوا وخرج الطعام من أنوفهم – تعبير شعبي في والاكيا – سألهم دراكولا بهدوء : 

- قولوا لي أيها النبلاء العظام.. كم حاكما حكم والاكيا عبر تاريخها؟ 

قال بعضهم عشرة حكام.. وقال بعضهم اثنا عشر حاكمًا.. بل ثلاثة عشر حاكمًا ربما.. قال دراكولا بثورة شيطانية فجأة : 

- هذا لأنكم خونة.. تأكلون لحم الحاكم قبل أن يتم سنتين من حكمه.. كم سنة قررتم أن تمنحوني أيها البويار ؟ 

في اللقطة التالية كان حُرَّاس القصر يهجمون على البويار من كل صوب.. يضربون بعضهم ويقتلون آخرين بقسوة.. ولم يكن "دراكولا" يشاهد من بعيد إنما أخرج سيفه وضرب أعناقًا صار نصله بعد ضربها يقطر حمرة.. بقي الكثير منهم أحياء.. نظر لهم "دراكولا" بعيون متسعة غاضبة وقال : 
_134_

- خذوهم إلى القلعة.. ليعملوا كتفًا إلى كتف مع الفلاحين في تشييدها. 

ثم قال بلهجة ذات مغزى: 

- وليعملوا فيها من الجهة الشمالية. 

الجهة الشمالية للقلعة هي الهاوية.. هاوية على ارتفاع ألف قدم.. كل من أرسله "دراكولا" هناك من البويار ماتوا.. بعضهم مات من الجوع.. أو من الإنهاك.. وبالطبع رماهم كلهم في الهاوية.. ثم إنه شنَّ حملة قاسية جدًّا لاحق فيها كل البويار الساكنين في مملكة والاكيا.. نساؤهم وأطفالهم وشيوخهم.. كانت إبادة عرقية.. تعدت العروق إلى أصغر شعيرة بويار دموية تنبض في جسد أحدهم.. وبدأت أنياب "دراكولا" في الظهور. 

على الجانب الآخر كنت أنا أقاتل في القسطنطينية.. كان "محمد الفاتح" حقًّا كما تصفه كتب التاريخ.. داهية حقيقية.. إن دهاء الفرسان يختلف عن أي دهاء آخر.. دهاء لا خبث فيه.. دهاء صاف.. كانت ملحمة تاريخية ليس بوسعي ذِكر تفاصيلها الآن.. لكننا حققنا هدفنا في النهاية.. وصارت القسطنطينية لنا.. بل صارت عاصمة المملكة الإسلامية العظيمة. 

"لتفتحن القسطنطينية.. فلنعم الأمير أميرها.. ولنعم الجيش ذلك الجيش" 

قال لي الأمير الفاتح في الميدان ناظرا إلى رأسي : 

- "رادو" هل تضعون الحناء على شعور الرجال في والاكيا ؟ 

أمسكت بشعري الذهبي في استغراب ثم ابتسمت بفهم قائلًا : 
_135_

- بل كنت أضع الحناء لسيفي ياسيدي.. لكن يبدو أن بعضا منها تناثر على رأسي. 

كان رأسي مضرجا بدماء الأعداء.. لكن رأسي لم يكن مهما.. كان المهم هو الخبر الذي جاءنا به مرسول الدولة.. لقد أعلنت والاكيا التمرد على السلطان.. لقد تمرد "دراكولا".. فعلها وتمرد.. لم يُرد السلطان "محمد الفاتح" أن يعكر صفو انتصاره بهذا الخبر.. لذا فقد سكت.. وأنا أعرف الفاتح عندما يسكت عن مثل هذا.. يبدو أن الأيام تدخر لنا معارك جديدة.. معارك مع أولي القربى. 

لكن "دراكولا" كان يفعل شيئًا آخر في والاكيا.. لقد تعدى مرحلة إظهار الأنياب وبدأ في مرحلة إخراج القرون والمخالب.. دعني آخذك إلى والاكيا لتشاهد بنفسك.. 

هناك خمسة رجال يلتفون على ما يبدو أنه رجل يصرخ.. وهم يتحركون في عنف وكأنهم يفعلون فيه أمرًا ما.. هاقد ابتعدوا عنه قليلًا وأمكنك أن ترى ما يفعلوه.. لقد ربطوا حبلًا في يده اليمنى وحبلًا في اليسرى.. وثالثًا في قدمه اليمنى ورابعًا في اليسرى.. وقام أضخم اثنين منهم بتثبيته وتراجع ثلاثة منهم.. هل ترى؟ إنهم يربطون أطراف الحبال في جياد.. والرجل يصرخ مستنجدًا بلغة لا تفهمها.. ثم إنهم وجهوا رؤوس الجياد إلى الاتجاهات الأربعة التي تشير إليها أطراف يديه ورجليه المتباعدة.. ثم إنهم وخزوا الجياد فتحركت ببطء ليرتفع الرجل عن الأرض صارخًا.. وظلت الجياد تتحرك تارة وتقف تارة والرجل يتمزق باكيًا.. ثم إنهم ضربوا الجياد بالسياط فثارت وتحركت بعنفٍ سريعٍ.. لتتمزق أطراف الرجل الأربعة وتجري كل منها مع جوادها.

وهاهو رجل آخر يمسكه رجلان مفتولا العضلات ويرغمانه على الركوع وهو يصرخ.. ويأتي رجلٌ آخر ماسكًا وتدًا خشبيًّا طويلًا مسننا ويطعنه به في دبره طعنه لا تقتل.. يحاول الرجل أن يفلت بلا جدوى.. ثم يقيدون يديه ورِجليه بطريقة معينة إلى الوتد.. ثم يتعاون الثلاثة رجال على رفع الوتد وتثبيته في فتحة بالأرض.. 
_136_

هاهو الرجل أعلى الوتد وكأنه جالس عليه.. ويُترك على هذه الحال حتى يموت.. ليست المشكلة في الموت من الجوع والعطش.. بل المشكلة في أن هذا الوتد ينغرز ببطءٍ شديدٍ في أحشاء الرجل ولا يقتله.. فقط يعذبه من الألم.. ثم يموت الرجل لما يخترقه الوتد ويخرج من جسده أو لما يموت من الألم.. أو من انفجار الأحشاء.. هذا الوتد الذي رأيته الآن هو ما اصطُلح على تسميته بالخازوق.. العقاب الذي اشتهر به "دراكولا" في كتب التاريخ. ويبدو أن "دراكولا" قد أعجبته حكاية الخازوق هذه فأخذ يتفنن فيها تفننًا عجيبًا؛ فمرة يغرز الوتد في فم أحدهم ويعلقه على الوتد مقلوبًا.. وتارة يعلق النساء عليه من فروجهن.. وتارة يغرزه في البطون.. وتارة يغرزه في رقبة طفل رضيع.. لقد كان أخي مختلًّا أو ربما شيطانًا حقيقيًّا.. وبلغ من إعجابه بهذه الطريقة إلى أن جعلها هي العقاب الرسمي لأي خطأ يُخطئه أي فرد من أفراد الشعب.. فمن يسرق يخوزقه.. ومن يكذب يخوزقه.. ومن يضرب أحدًا يخوزق الضارب والمضروب.. بل إنه وصل إلى مرحلة أبعد من هذا.. دعني آخذك إلى هذا المشهد. 

قلعة "دراكولا".. المكان المجهز بكافة وسائل التعذيب التي سأحكي لك نبذات عنها فيما بعد لو أسعفتني ذاكرتي.. عرش "دراكولا".. يجلس عليه شيطان آدمي أمامه طعام وشراب أحمر يبدو وكأنه خمر.. بجانبه كان يجلس أحد النبلاء البولنديين يأكل معه.. أمامهما الكثير من الضحايا المعلقين على الخوازيق يتألمون.. "دراكولا" يبدو مستمتعًا جدًّا بصراخهم وكأنه يسمع ألحانًا عذبة.. أما البولندي فوضع يده على أنفه مشمئزًا من الرائحة الكريهة لبعض الجثث التي ماتت وتعفنت وأبقاها "دراكولا" على حالها ورائحتها.. التفت إليه "دراكولا" وقال : 

- مابك؟ 

- ياسيدي لا أستطيع تحمُّل رائحة العفن هذه ؟ 

- ابأس لابأس سأعالج الأمر. 
_137_

أشار إلى جلاوزته (رجاله) فهجموا على الرجل هجمة رجل واحد.. ثم أمرهم أن يرفعوه على خازوق أطول من كل الخوازيق المعروضة.. صرخ الرجل النبيل البولندي حتى تحول صراخه إلى بكاء لمّا وخزوه بالوتد في دبره ورفعوه وثبتوه.. نظر إليه "دراكولا" قائلًا: 

- أنت الآن في الأعلى أيها الصديق العزيز حيث لن تصل إليك الروائح الكريهة. 

ثم شرب "دراكولا" من الكأس الحمراء التي أمامه والتي يتضح لك لما ترى انسياب السائل فيها أنه ليس خمرًا.. بل هو دم.. دم طازج.. دماء ضحاياه ممزوجة بالخمر.. شرابه المفضل.. الذي كان يحب أن يشربه على آهات المعذبين المسلوخين أمامه كالذبائح والتي تقع على أذنه موقع زقزقة البلابل.. ويحب الطريقة التي يسيل بها الشراب من شفتيه إلى ذقنه.. كان هذا هو "دراكولا" كان يضع قدورًا ويطهو الناس فيها أحياء.. بل ويأمر جلاوزته أن يقَطعوهم بالسيوف وهم داخل القدور أحياء يصرخون.. المرأة الكسولة كانت يدها تقطع وتثبَّت على خازوق مستقل لتكون عبرة لكل النساء.. بل إنه نادى ذات مرة كل فقراء البلدة وشيوخها وأطفالها إلى وليمة عظيمة في سابقة استغرب لها الكل.. وبعد الوليمة قتلهم كلهم.. لأنه لا فائدة تُرجى منهم.. إنما هم يُرهقون الدولة.. ودعني أكتفي بهذا القدر من المصائب.. لأنني لو ذكرت كل ما علِمته لملأت مجلّدًا مستقلًا.. باختصار.. لم يشهد العالم شخصية مختلة مثل هذا من قبل ولا من بعد.. والمصيبة أن هذه الشخصية المختلة كانت أخي. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى كان السلطان محمد الفاتح في طريقه إلى والاكيا.. بجيش يسد الأفق.. وكنت معه جنبًا إلى جنب.. في طريقنا إلى "دراكولا".. ظلَّ الجيش يزحف حتى وصل إلى نهر الدانوب.. وكنا نرى جنود "دراكولا" على الجهة الأخرى من النهر.. 
_138_

وكعادة "محمد الفاتح" وكما علمه "محمد" النبي أرسل مبعوثين اثنين من أفضل الرجال إلى الخصم لتسوية الأمور سلميًا.. فإما الجزية وإما الحرب.. وهذا ما حدث مع المبعوثين.. 

دخل المبعوثان المسلمان على الحاكم "دراكولا" في قلعته.. وكان قد أزال كل الخوازيق لغرض في نفسه.. 

- السلام عليكم ياحاكم والاكيا.. جئتك من السلطان بكتاب يقول فيه.. أس.. 

- انزعا غطاء رأسيكما. 

توقف المبعوث عن الكلام في دهشة.. قال "دراكولا" بغضبٍ: 

- انزع غطاء رأسك أنت وهو.. ماهذه العمائم الطويلة السخيفة؟ 

- إنها تقليد عثماني أيها الحاكم.. وعظمة تقاليدنا أهم من مزاجك المتعكر. 

- لا بأس.. سأبقيه لكما.. كما تشاءان. 

وأشار إلى جلاوزته المجانين الذين أحاطوا بالمبعوثين في سرعة وأمسكوا بعمائمهم في إحكام ثم قاموا بأمر شديد الغرابة والوحشية.. جاءوا بمسامير صغيرة رفيعة... وقيدوا المبعوثين.. ودقوا المسامير في عمائم المبعوثين لتخترق رؤوسهم وتسيل دماء رؤوسهم على أعينهم.. قال لهم دراكولا : 

- هكذا ستبقى عمائمكم على رؤوسكم إلى الأبد.. اذهبوا إلى السلطان "محمد الفاتح" وأخبروه كيف أن "دراكولا" لم ينسَ التقاليد العثمانية.. وخاصة المتعلقة منها بإبقاء العمائم على الرؤوس. 

عاد المبعوثون ودماؤهم المندهشة تسيل على وجوههم.. وحكوا ما حدث معهم للسلطان الذي غضب غضبة لم أره قد غضبَ مثلها في حياته.. أمر السلطان أن تتحرك سرية قوامها عشرون ألف رجلٍ لتخترق جيوش العدو.. أي ما يساوي ثلاثة أضعاف جيش "دراكولا".. وكان قائد الجيش فارسًا شجاعًا مسلم اسمه "حمزة".. أفضل فرسان جيش السلطان في ذلك الوقت. 
_139_

وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد.. لقد انهزم جيش السلطان هزيمة نكراء لم ينهزم مثلها من قبل.. ولم نرَ إلا "محمد الفاتح" يقف بجواده على قوائمه الخلفية ثم ينطلق به كالسهم وانطلقنا كلنا خلفه.. بجيش قوامه عشرون ألفًا آخرون يملؤهم الغضب وشهوة الانتقام. 

وهانحن نخترق نهر الدانوب.. يالها من عزة تلك التي كنا فيها.. يالروعة هذا الدين.. لقد عادت إلي ذكريات قتالي في القسطنطينية.. أن تركض بجوادك بين عشرين ألف فارس مسلم ترك الدنيا وراءه ولم يعد يرى إلا الشهادة هو أمر لن أقدر أن أوصله إلى مخيلتك أبدًا.. أمر عظيم.. وهانحن ندخل من أبواب المدينة.. وهانحن.. شعرت بحركة غير طبيعية في مقدمة الجيش.. وكنت أنا في أوسط الجيش.. رأيت الجمع قد تباطأت سرعته وسمعت أصواتًا تبدو وكأنها نحيب في مقدمة الجيش.. لم أفهم ما الأمر.. لماذا توقَّف الرجال؟ اخترقت الصفوف بسرعة حتى اتضحت لي الصورة.. الصورة التي جعلت عينيَّ تتسعان حتى كادتا أن تخرجا من مكانهما وتذهبان بعيدًا احتجاجًا على هذا الهول الذي ترونه.. وتوقف جيش السلطان بل توقف السلطان نفسه بكل شجاعته.. انظر أمامك.. ألا ترى ما نراه؟ 

إنها غابة كثيفة.. بل غابتان كثيفتان.. غابة عن يميننا.. وغابة عن شمالنا.. غابتان جذوعهما أوتاد خشبية.. أغصانهما أياد وأقدام بشرية حية وميتة.. أوراقهما أجساد مخوزقة على الأوتاد. . أجساد خرجت منها أرواحها أو لم تخرج.. أجساد تنظر لنا بأعينها وتقول الله أكبر.. وكان للغابتين صوت.. صوت آهات ونحيب.. وصوت يذكر الله.. إنها السرية التي أرسلها محمد الفاتح.. لقد وضعهم الشيطان جميعًا على الخوازيق.. عشرة آلاف وتدًا عن يميننا وعشرة آلاف عن شمالنا. 
_140_

توتر الجيش.. تعالت صيحات البكاء على الأهل أحيانًا أو على الرفاق.. أو على إخوة مسلمين أو على الإنسانية.. وقف "محمد الفاتح" مذهولًا.. وجعل يتذكر طفولته مع "دراكولا".. ذلك الطفل الحقود الذي كان يناوشه ليل نهار.. الآن لم يعد طفلا.. بل صار شيطانًا رجيمًا.. يناوشه أيضًا.. نظر إلى ناحيتي.. كيف أنجبتكما بطن واحدة.. كيف رباكما أب واحد.. كيف صار أحدكما فارسًا مسلمًا وصار الآخر ماردًا من مردة الجحيم.. نظر "محمد الفاتح" إلى جيشه.. لقد انهارت كل جذوة حماس بداخلهم.. التفت "محمد الفاتح" لأول مرة في عمره بجواده لجهة العودة وقال : 

- ليس اليوم يوم زحفنا.. لكن بحق هذه الأرواح الطاهرة وبحق كل قطرة دماء.. سنأتي برأس هذا الشيطان على وتد نضعه في منتصف القسطنطينية يرميه صبيانها بالحجارة. 

والتفت جيش المسلمين عائدين من حيث أتوا.. لم تكن الحرب هذه المرة مع حاكم عادي.. لقد كانت مع "دراكولا".. الشيطان. 

كان مستحيلًا في ذلك الوقت أن تفعل ما فعلت بالمسلمين وتنجو بفعلتك.. كان "محمد الفاتح" يجهز جيشًا قوامه ستون ألف رجل.. مليء بالخيول والمدافع والغضب.. وجعلني أنا على رأس هذا الجيش قائلًا: 

- اذهب يا "رادو" وائتني برأس أخيك.. إن عرش والاكيا لم يُخلق لتعتليه الشياطين.. إن عرش والاكيا قد خُلِق من أجلك أنت. 

- سآتيك به ياسيدي قبل أن تجف دماء شهدائنا في والاكيا. 

وانطلقتُ على رأس ستين ألف رجلٍ إلى والاكيا.. وفي هذه المرة سمع "دراكولا" بخبرنا وبعددنا ففعل شيئًا عجيبًا؛ ترك عاصمة والاكيا واتخذ طريقًا إلى بوينار.. وجيشنا يطارده بغضبٍ.. العجيب أنه كان يحرق مخازن الحبوب والطعام ويسمم الآبار في كل مدينة يدخلها ليتركنا بدون مؤونة.. فجيوش تلك الأيام كانت تزحف على معدتها.. 
_141_

أي أنها كانت تعتمد في الإطعام على المدن التي تدخلها.. لكن هذا لم يفت في رجال كان الذَكر طعامهم وشرابهم.. طاردنا "دراكولا" لمدة طويلة جدًا.. ودخلنا في عدة معارك مع جيوشه.. فزنا باثنتين وخسرنا في ثلاث.. كان كالشيطان يهاجم في آخر الليل.. لكننا استبسلنا حتى حاصرناه تمامًا في قلعته في بوينار.. وانطلقت أنا وورائي جميع الرجال لنحطم بحوافر جيادنا أبواب قلعته.. ونزلت من على ظهر جوادي وأخرجت سيفي من غمده وجعلت أبحث عن الرأس.. رأس الشيطان. 

قال لي "دراكولا" وكان يقف في ساحة خارجية تتوسط قصره: 

- خنت بلادك يا "رادو" وألبسوك عمتهم الطويلة الخاوية ؟ 

- بل عرف قلبي طريقًا تاه عنه سنين طوال.. طريق تقع في نهايته رأسك. 

ورفعت سيفي كما ترفع الفرسان سيوفها.. لأجد "دراكولا" يرمي بسيفه بعيدًا ويفعل آخر شيء توقعته في تلك اللحظة.. قفز في بئر بمنتصف الساحة.. أسرعت إلى البئر لأنظر بداخله في غضب لأرى "دراكولا" ينظر لي بسخرية ثم يركض هاربًا في طريق أسفل البئر.. عزمت على اللحاق به لكنني رأيت رجاله قد أتوا في الأسفل وأوقدوا نارًا عظيمة ارتفع لهيبها إلى أعلى البئر حتى كاد أن يلفح رأسي.. كان هذا نفقا سريًّا من أنفاقه التي عُرف لاحقًا أنه قد بناها في كافة قلاعه.. لقد هرب "دراكولا".. هرب وترك لنا والاكيا. 

هرب "دراكولا" إلى هنغاريا ليطلب الدعم من ملكها.. ولكن ملكها بدلًا أن يقدم له الدعم قام بأسره وسجنه في هنغاريا.. وظلَّ مسجونا سنينَ طويلة.. وأصبحت أنا أميرًا على والاكيا حكمت فيها بالعدل وجعلت شعب والاكيا ينسى كل ما فعله به "دراكولا".. حكمت والاكيا تسع سنوات كاملة.. تزوجت فيها امرأة مسلمة وأنجبت طفلة جميلة مسلمة هي "ماريا".. ثم أتاني أجلي وخرجت روحي إلى حيث مستقرها.. ومن جاء بعدي لحكم والاكيا كان رجلًا خارجًا من سجن سنين طوال في هنغاريا.. رجل يدعى الشيطان.. "دراكولا". 
_142_

شهر واحد فقط حاول فيها الشيطان أن يُعيد أسطورة حكمه في والاكيا.. شهر واحد انتهى برأسه مقطوعة على رماح أحد الحشاشين المتبقين بعد أن أباد "هولاكو" دولتهم.. ذلك الحشاش الذي أمسك بالرأس وغمسها في العسل ثم أرسلها إلى القسطنطينية.. إلى "محمد الفاتح" حتى يستلمها طازجة.. رأس "دراكولا" التي عُلقت في القسطنطينية في البلاط العثماني ليتفل عليها من يتفل ويرميها بحجارته من يرمي.. رأس حَوَت عينين كانتا متجبرتين متغطرستين.. والآن أصبحتا مفقوئتين تنظران إلى الأرض في ذُل. 

كان "دراكولا" مختلًّا عقليًّا.. فقد بلغنا أنه كان يفعل أشياء عجيبة جدًّا في سجنه في هنغاريا.. كان يصطاد الحشرات والقوارض ويخوزقها على أعواد صغيرة من أغصان الشجر.. ويتسلى برؤيتها تموت.. أي شيطان هذا.. بل أي مخبول.. لكنه أخذ منا ما يستحقه.. ولقد خُلقنا فرسانًا لنوقف أمثال هذا عند حده. . ولا نخشاه وإن خرجت له أجنحة يطير بها.. لا نخشى إلا غضبة من خلقنا.. لهذا خُلقنا فرسانا.. بل لهذا خُلقنا مسلمين. 

تمَّت 


***


_143_


تحليل القصة 6


لم يكن هناك شخصية تصلح لأن يقتبسوا منها شخصية "دراكولا" مصاص الدماء الشهير أكثر من شخصية "دراكولا" الحقيقي.. وهو فعلًا كان يحب شرب دماء ضحاياه الممزوجة بالخمر.. والواقع أن "دراكولا" الذي نراه في الأفلام يعتبر طفلًا مدللًا أمام "دراكولا" الشيطان الحقيقي. 

السبب الذي ذكرت فيه هذه القصة هي أن "دراكولا" قد خَلَف والده في رئاسة تنظيم التنين.. وهو واحد من التنظيمات السرية التي أُنشِئَت بعد فرسان الهيكل.. وهي تنظيمات ماسونية ركزت في تلك الفترة التاريخية على تجهيز حملات ضد الدولة العثمانية. 

تنظيمات كانت في ظاهرها تدعو للإخاء والمحبة والمساواة كعهد كل التنظيمات الماسونية ولكن لها في الحقيقة أهداف أخرى.. أهداف سوداء.. لكن والد "دراكولا" الذي يدعى "دراكول" لم يقدر على فعل شيء أمام قوة الجيش العثماني وكل الحملات التي قام بها فاشلة.. حتى أذعن في النهاية للسلطان العثماني إذعانًا مطلقًا وأرسل له ولديه كضمانٍ للولاء. 

ولكن عندما أصبح ابنه "دراكولا" رئيسًا للتنظيم الماسوني كان يبدو وكأن الشيطان نفسه قد أصبح رئيس التنظيم.. فنظَّم حملات بشعة أذاقت الجيش العثماني ويلات كثيرة أعجبت ملوك أوروبا ورجال الدين فيها حتى أنهم غضوا النظر عن دموية "دراكولا" في تلك الحملات.. فالمهم عندهم أنه كان يقاتل الأعداء ويذيقهم الويل. 

تم تمثيل قصة "محمد الفاتح" و"رادو" و"دراكولا" في مسلسل تركي شديد الأهمية هو Fatih .. ويحكي القصة كاملة منذ طفولة الثلاثة وحتى فتح القسطنطينية ووفاة "محمد الفاتح". <
_145_

بغض النظر عن هذا.. دعني أخبرك المزيد عن الماسونية وعن انضمامي لها.. ولا أحد سيخبرك بما سأخبرك به لأنني تدرجت فيها حتى الدرجة الحادية والعشرين.. ورغم أنني سأموت بعد قليل كما هو واضح إلا أنني لم أعد أخشى شيئًا.. فسأقدّم حياتي ثمنًا لما سأخبرك به الآن.. كما قدم العديدون من قبلي حياتهم.. لكنني سأختلف عمن سبقوني لأنني سأورثك من بعدي كتابًا.. كتاب عليك أن تقرأه وتحتفظ بتفاصيله بين جنبات عقلك.. ثم تحرقه حتى لا يطالك مثل ما سيطالني. 

الداخل جديدًا على الماسونية لا يستشعر منها بأي خطرٍ.. بالعكس هو يقسم على الكتاب الشائع في البلد الذي هو فيه.. فالمسلم يقسم على القرآن.. المسيحي على الإنجيل.. اليهودي على التوراة.. وعند الوصول للدرجة الثامنة عشرة تحديدًا.. يكون القسم على التوراة فقط.. والرموز نفسها تكون معانيها بريئة في البداية ثم تتطور لتكون معاني متوسطة ثم تتحول لتصبح رموزًا يهودية خالصة. 

وهم لا يختارون أي شخصٍ للدخول في الماسونية.. لكنهم يختارون أشخاصًا بعينهم.. أشخاص لهم تأثير في المجتمع.. تأثير سياسي أو ديني أو اقتصادي.. فلديهم مجموعات تحريات تراقب شخصًا معيّنًا.. مرشّحًا من قِبَل ماسونيين آخرين.. يخرج له أشخاص لمراقبته ويجمعون عنه كل ما يمكن جمعه من معلومات.. هم دائمًا يبحثون عن استيطان أذهان النُخب تحديدًا.. أصحاب المناصب وأصحاب الثروات.. حتى يتمكنوا عن طريقهم من إنفاذ أغراضهم.. ثم حتى بعد انضمامهم يقيمون لهم اختبارات معينه تدريجية تؤهلهم للتدرج إلى كل درجة تالية. 

فالماسونية ليس فيها تقدم.. لا يمكن أن تتقدم لتكون ماسونيًا.. لابد فيها من ترشيح من أحد من داخل محفل.. والدرجات الثلاث الأولى تعتبر بمثابة كشافات لمعرفة من يصلح للترقي بعد ذلك.. وهو غالبًا الشخص النافذ أو الذي لديه منصب.. الشخص الفارغ أو المستعد لأن يُفرغ.. تكون عنده طموحات.. عنده شهوات مثلًا يحب المال أو النساء أو السلطة.. وهم يوفرون له هذه الأشياء.. ثم يتم تصعيده في سلم الماسونية وتغيير الأفكار في كل مرتبة وكل درجة وتغيير معاني الرموز.. فإذا وصل للدرجة ال 33 ويسمونها الدرجة السامية .. 
_146_

يفتح له الأستاذ الأعظم للمحفل سجلًّا ويقول له.. أنت وأبوك وأجدادك ستتشرفوننا بالانضمام إلى بني إسرائيل.. فالآن نحن نصحح نسبك ونسجل اسمك في سجل السبط الثالث عشر لبني إسرائيل.. وستحوز شرف مشاركة هذا السبط الفخري العظيم في إتمام العمل العظيم.. وإعادة البناء العظيم.. الهيكل العظيم.. هيكل سليمان. 

في البداية يقولون إن الإله الذي يعبدونه هو المهندس الأعظم.. وهي كلمة مبهمة قد تظنها تشير إلى الله.. وفي الدرجات المتقدمة بعد العشرين يتحول هذا المهندس ليكون "لوسيفر".. وبالمناسبة لا تظننهم يعبدون الشيطان على أنه شيء شرير.. وإنما على أنه هو الذي هدى الإنسان إلى المعرفة وعرفه بها.. وهو من علَّم الإنسان الزراعة والتجارة والصناعة وعلَّمه ركوب البحر وهو الذي هداه في كل مناحي حياته فطبيعي أن عبادته تكون شيئًا عاديًا ليس فيها شيء.. ولما حدَّث آدم وحواء بأكل التفاحة في الجنة كان هذا لأنه يحبهما ويريد لهما الخير.. وليس الشر كما تزعم الأديان.. وتدريجيًّا ستتعلم أن الله لم يلعن "لوسيفر" وإنما حاربه.. لأن "لوسيفر" يريد العِلم للبشر والله يريد لهم أن يظلوا جهلة. 

فالله يعدك بوعودٍ زائفة طيلة الوقت.. تدعوه واستجابته لدعائك هو حظ.. أما "لوسيفر" فلما تعبده وتتمنى شيئًا.. مجرد التمني فهو يكون بين يديك في الحال.. يدخلك إلى جنته في الدنيا.. وستتعلم أن الآخرة هي مجرد وهم لا وجود له.. بكل ما فيها من جنة ونار وما إلى ذلك.. هكذا علموني عندما دخلت إليهم.. لكن كانت أجزاء من نفسي تأبى هذا كله.. وخاصة عندما علمت السبب الذي يريدون إعادة بناء الهيكل من أجله.. ذلك السبب الذي سأؤخر إخبارك به حتى تحين اللحظة المناسبة. 
_147_

ولو أنك رأيت "لوسيفر" كما يمثلونه في رسوماتهم مثما رأيته أنا لتعجبت.. أذكر لوحة ذات طول كامل لإبليس فوق مذبحه.. لقد بدا مثل رجل ذي فكرٍ عظيم رفيع الجبهة.. وعندما تنظر لعينيه تعطيك انطباعًا بعيون شخص واسع الاطلاع وقوي جدًّا.. وهذه اللوحة يمكنك أن تراها لو دخلت أيًّا من منظمات عبدة الشيطان أو الماسونية أو خلافهم. 

لكن المنظمة الماسونية وحتى هذه الحكاية من التاريخ كانت لا تزال في بداياتها ومافعلته على أرض الواقع كانت خطوات مبدئية بطيئة جدًا.. وذلك لأن الامبراطورية العثمانية كانت سيدة العالم كله.. و فتوحاتها في الشرق والغرب لا تتوقف.. ولو أنها تُركت قرنًا آخر فستغزو العالم كله.. ولن تتمكن الماسونية من بناء ذلك الهيكل المقدَّس الذي وهبوا من أجله حياتهم.. لأن بناءه سيكون في فلسطين.. على أنقاض المسجد الأقصى.. ولو أن ذبابة حاولت أن تمس المسجد الأقصى أيامها لذبحتها الدولة العثمانية شر مذبح. . لكننا لازلنا في البداية.. ومعي ستتعلم الصبر حتى تنال غايتك.. وحتى أنال غايتي. 

إن الحكاية القادمة بالذات لها عدد كبير جدًّا من الأوراق.. سأعرض عليك ورقة واحدة الآن. والباقي عندما تنتهي الحكاية الورقة هي ورقة الإيلو- ميناتي.. وعليها صورة قد تكون مألوفة لديك.. هرم غير مكتمل في أعلاه عين.. يشع من ورائها نور. 

وهي حكاية سيحكيها لك شخصان؛ رجل وامرأة.. أحدهما صادق.. والآخر كاذب.. وسأخبرك سرًا صغيرًا حتى تميِّز الصادق من الكاذب وأنت تستمع لهما.. الصادق منهما هو من سيموت قبل الآخر.. تذكر هذا جيدًا.. والآن سأتركك معهما.. 

***

_148_

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.